رسالة إلى ولدي.. الكلية الحربية
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
إلى ولدي علي
لا أنسى أبداً نظرة الخذلان في عينيك يوم سفري بعد حضوري للقاهرة 48 ساعة من أجل حضور حفل توقيع روايتي الخامسة سيرة عباد الشمس لم تتخيل أن أتركك مرة أخرى بهذه السرعة، كان بكاؤك في الزيارات السابقة يؤلمني لكن تلك النظرة التي سمحت بها سنين عمرك السبعة كانت الأكثر ألماً، لم تكن تفهم أني تغربت من أجلك أنت وإخوتك، وأنني أكره الحياة خارج مصر والابتعاد عن أكثر 50 سم أماناً في العالم وهو حضن والدتي جدتك، كنت أبكي في نهاية كل زيارة لوالدي في المدينة المنورة وأنا في مثل سنك، لم أطق يوماً ولم أعرف تفسيراً للبعد.
الأطفال لا يطيقون البعد لأنهم لا يملكون له تفسيراً، في الحقيقة الكبار يخترعون مبررات غير منطقية للبعد حتى يستريحوا، ظل والدك طفلاً لا يخترع مبررات وبعده عنك يوماً واحداً كان يقتله يا صغيري.
لكن مثلي والذي تعوّد الحياة كعابر سبيل منذ دخوله الكلية الحربية عام و1991، وحتى التقى وطنه في نهاية 2014 وسكنه عام 2015 .. كانت غربته قدر ومصير، الكلية الحربية التي حدثتك عن عقبة دخولها الرسالة الماضية خاصة بعد طلب شهادة حسن سير وسلوك من المدرسة.
المدرسة نفسها التي سقى فيها والدك مع رفاقه مدرس الرياضيات منوماً وألقوا به على دكة محطة المترو، وأصابوا مدرس اللغة العربية بانهيار عصبي عقب اختيار الصمت أمام المفتش وعدم الإجابة عن أي سؤال قبل اختطاف قبعة الرجل وإحراز هدف جميل بها من شباك الفصل.
المدرسة التي لم يحضر والدك فيها حصة لغة ألمانية واحدة لأن المعلمة كانت تطردني من باب الاحتياط، المدرسة التي غبت في أحد أعوامها 113 يوماً ولم يفصلني المشرف لأن جدك والدي كان أستاذه.
جدك ياعزيزي هو من ألف كتاب الفيزياء للمرحلة الثانوية لهذا كان لزاماً علي والدك أن يحضر حصة الفيزياء صامتاً احتراماً للوالد.
لن أطيل عليك ذكريات التشرد والحضور في سينما طيبة والذي فاق الحضور في الفصل لدرجة أني حضرت أفلاماً من عينة الراية حمراء والمرأة الحديدية؛ لكني سأخبرك أن شهادة حسن السير والسلوك كانت أسرع شهادة حصلت عليها في حياتي لأن معلمي المدرسة كانوا يتمنون أن يزجوا بي في الكلية الحربية انتقاماً مني ورغبة في تأديبي ويبدو أن الله استجاب.
بكيت كثيراً يوم إعلان قبولي طالباً في الكلية، ولم أبك في حياتي مثلما بكيت في فراشي في الليلة الأولى داخل الكلية عندما طلبت من أحدهم أن يدير مروحة السقف فنهرني بحجة أن طالب السنة الأولى ليس من حقه أن يطلب شيئاً.
فقد والدك حريته بمحض اختياره، تلك الحرية التي سيعيش الباقي من عمره بحثاً عنها، كلنا نرتكب في الصغر حماقات عديدة، ولكل رجل بالغ عاقل قرار أحمق، لهذا لم أندم يوماً على حماقاتي، بل استمتعت بها للغاية، حاول أنت أيضاً أن تستمتع بها.
المخلوقون من البهجة لا يعنيهم سوى تلك التجارب التي تهبهم القدرة على مواجهة قبح الحياة.
دعني لا أطيل عليك حتى نعود في رسالة أخرى.
مع حبي
والدك.
إقرأ أيضاً
“كوميديانات زمان.. “الممثل اللي مالوش رسالة مش بني آدم
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال