سيرة الزجل السياسي من الاسترزاق إلى النشيد الوطني (3-3) بصمة يونس القاضي
في الأول من يوليو عام 1888 شهد حي الدرب الأحمر بالقاهرة مولد الشيخ محمد يونس القاضي، ولد الشيخ وتربي في كنف والده الذي كان يعمل في السلك القضائي وقتها، وانتقل بعدها مع أسرته إلى مركز أبو قرقاص التابع لمحافظة المنيا لظروف عمل والده.
اقرأ أيضًا
سيرة الزجل السياسي من الاسترزاق إلى النشيد الوطني (1-3) مرحلة الأندلس
كان أباه المغرم بالشعر والزجل، أول من ساهم في تعلقه بالأدب مذ الصغر، كان والده يعقد ندوة أدبية يوم الجمعة من كل أسبوع يحضرها شعراء وأدباء المحافظة، ويحرص على أن يحضرها صغيره “محمد”، ومن فرط اهتمام الشيخ الصغير بتلك المناسبة الأسبوعية كلفه والده بتسجيل كل ما يدور في تلك الندوات كسكرتير للجلسة، وكانت تلك المهمة الصعبة المسندة إلى هذا الطفل الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، كفيلة بأن ترسم معالم شخصيته وتكوينه الفكري ، حتى انه الطفل الصغير الذي التحق بمدرسة الشيخ محمود عمرو كان ينتظر يوم الأجازة الأسبوعية ليستمع إلى أشعار وأزجال والده وأصدقائه ويتعلم منهم في كل مرة فنون الشعر والأدب.
القاضي “عيل” الصحافة الذي ولد كبيرًا
في عام 1900 كان يونس القاضي قد أتم عامه الثاني عشر حين قرر والده العودة لمسقط رأسه في قرية النخيلة مركز أبو تيج بمحافظة أسيوط واستكمل تعليمه هناك قبل أن يعود مرة أخرى إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر.
اقرأ أيضًا
سيرة الزجل السياسي من الاسترزاق إلى النشيد الوطني (2-3) أبو بثينة المصري
عودة “يونس” إلى القاهرة مرة كانت بمثابة البوابة التي انفتح من خلالها على عالم الأدب والشعر والصحافة، حيث تمنى أن تكون كلماته سلاحا يواجه به المستعمر الانجليزي وبدأ يبحث عن فرصة للكتابة في الصحف المصرية التي كانت تصدر وقتها، تأثر “القاضي” منذ صغره بالزعيم مصطفى كامل وخطبه الحماسية ونضاله ضد الاستعمار ، وقد ظهر هذا في كتابات القاضي الأولى في جريدة المؤيد، وعن بدايات “القاضي” في عالم الصحافة تذكر الدكتورة إيمان مهران في كتابها يونس القاضي مؤلِّف النشيد الوطني المصري .. وعصر من التنوير الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2012 “بدأ الشيخ يونس فى مراسلة الصحف منذ عام 1905، وكان الشيخ أزهرياً فى الثامنة عشرة من عمره ، وقد أرسله والده ليتعلم فى الأزهر، وأرسل معه خطاب توصية إلى الشيخ على يوسف صاحب (المؤيد) ليسمح له بالعمل فى جريدته، وبدأ بعد مقابلة على يوسف فى نشر مقالات كان أغلبها يُنشر في الافتتاحية بأسماء مستعارة مثل (جرير)، و(الأخطل).. وكلما طلب من على يوسف بأن يذَيل هذه المقالات بإمضائه الحقيقى، كان يصده ويرد عليه بنفس العبارة: “أنت فاكر يا ابني أن المؤيد لعبة.. أنت لسة عيل فى الصحافة!”..
وتحكي “مهران” عن خبر تسبب في رحيله عن ” المؤيد” وتقول “ظل الشيخ يونس على هذا الحال إلى أن كتب فى يوم من الأيام هذا الخبر “فلانة الفلانية” مات أبوها وأرادت عمل وصية، فتقدمت إلى مجلس حسبى شربين الذى يرأسه المأمور “فلان الفلانى”، ولكن صاحب الأمر والنهى في هذا المجلس ظل يساومها وفى النهاية أجل القضية ثلاثة شهور فمطلوب من المسئولين وقف المأمور عند حده وما أن قـرأ على يوسف هذا الخبر، حتى ثار وضرب المكتب بيده، قائلاً “انت عايز تودينا في داهية.. انته عايز تورط المؤيد في قضايا.. اطلع بره!!”..خرج الشيخ يونس القاضى من المؤيد بعد أن قرر ألا يعود إليها مرة أخرى
ساهمت انطلاقته المبكرة في عالم الكتابة في تشكيل وعيه السياسي، وساعده نبوغه ونضجه في أن يقابل زعيمه وملهمه مصطفى كامل، حيث ذهب القاضي إلى الحزب الوطني وبحوزته مقالاً كان قد كتبه في جريدة اللواء هاجم فيها المحتل البريطاني، حيث كانت تلك الكلمات هي واسطته هذه المرة ليذهب ويطلب ويقابل مصطفي كامل وبالفعل استطاع يومها أن يلتقي به للمرة الأولى وعند ذلك اللقاء يقول القاضي “خرجت من عنده وأنا متحمس جدا، وبدأت في تأليف الجمعيات الوطنية بالأزهر”.
همزة الوصل بين الزعيم والبسطاء
مسئولية كبيرة وضعها الزعيم على عاتق ذلك الشيخ الصغير الفصيح ، كانت بمثابة نقطة تحول في حياته حيث طالبه الزعيم بأن يكون همزة الوصل بينه وبين البسطاء، وأسند اليه مهمة تبسيط خطبه إلى العامة والبسطاء كونها الطريقة الانسب لتصل كلمات الزعيم الى كل فئات الشعب، وعن هذا الطلب يقول الشيخ في حوار نشر له قبل وفاته “فوجئت بالزعيم مصطفي كامل يقول “:”ياشيخ يونس أنا بخطب بالفصحى والفرنسية والإنجليزية،ولكن الناس فى حاجة لمن يحدثهم بلغتهم، وأنت الوحيد الذى يستطيع ذلك”.
خرج القاضي من لقائه بمصطفى كامل ليبدأ رحلته في ترجمه كلمات الزعيم إلى أشعار وأزجال ومسرحيات شعرية ، ودفع ثمن كلماته باهظاً حيث تعرض للاعتقال 19 مرة على يد الإنجليز حسب ما تداولته الدكتورة أيمان مهران في كتابها عن سيرة الشيخ.
الزجل من بوابة الصحافة
استمر الشيخ يونس في رحلته الصحفية ومسيرته التنويرية حتى فتح له الزجل مصادفة باباً جديدا في بلاط صحافة الجلالة ، في عام 1910 صدر كتاب “تسالى رمضان” جاء فيه بيتان من الزجل للشيخ يونس القاضى، وقد أثاروا إعجاب الأستاذ “أحمد عباس” مالك مجلة “السيف” فاتصل بالشيخ يونس، وطلب منه أن يكون زجال هذه المجلة.
ولكن الشيخ يونس لم يكن متحمساً لتلك الخطوة في البداية بحجة بذاءة المحتوى الذي تقدمه المجلة ولكنه وافق بعد الحاح مالكها ، ولكنه أشترط نشر أزجاله دون إمضاء حسب ما ذكرته الدكتورة إيمان مهران ” يذكر الشيخ يونس أنه ظل يرفض العمل بمجلة “السيف” لأنها كانت بذيئة، حتى وافق تحت إلحاح صاحبها على نشر أزجاله ولكن دون إمضاء ومقابل جنيه واحد عن كل زجل ينشر بالمجلة.
وكان نتيجة نشر أزجاله فى “السيف” تضاعف توزيعها، وقد عرفوه فى الوسط الصحفى رغم عدم توقيعه باسمه تحت هذه الأزجال حيث كان “أحمد عباس” صاحب المجلة يذكر اسمه لمن يود معرفة صاحب هذه الأزجال مقابل جنيه واحد متصوراً أن هذا لن يضره لأنه لن يجد مجلة أخرى يحصل منها على ما يحصل عليه فى “السيف”.
في عام 1911 نشر ” القاضي” أول زجل سياسي له في جريدة السيف منتقدا غياب العدل والحرية وجاءت كلماته كالتالي
يا ست مصر صباح الخير .. يسعد صباحك يا عنية
فين العدالة يا مونشير وبس فين الحرية
انتشرت كتابات وأزجال “القاضي” في كبرى الصحف والمجلات الأدبية حتى أنتقل عام 1912 للكتابة في مجلة اللطائف المصورة والذي كانت تنشر أزجاله أسبوعياً منذ عام 1915م وحتى عام 1942م وكان زجل الشيخ يونس السياسي ينشر تحت رسوم كاريكاتير الأستاذ صاروخان
زجال الشعب يقاوم بالكلمة
في 8 مارس عام 1919 قبض على الزعيم سعد زغلول ورفقاء نضاله حمدي الباسل ومحمد محمود واسماعيل صدقي وصدر قرر بنفيهم الى خارج البلاد ، ما حدث لزغلول ورفاقه استدعى غضب شعبي عارم قامت على أثره ثورة 1919، وصدر قرار من المستعمر البريطاني بمنع تداول أسم سعد زغلول ورفاقه في الأعمال الفنية ، فتحايل “القاضي” ورفيق دربه وقتها سيد درويش على هذا القرار وأخذوا يتداولون اسم الزعيم ضمن أغاني تحمل في ظاهرها سياقا عاطفيا وفي باطنها تشير الى سعد وظهرت وقتها أغنية يا بلح زغلول حسب ما ذكرته الدكتورة إيمان مهران في كتابها وجاءت كلمات الاغنية كالتالي
يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
يا بلح زغلول يا زرع بلدي
عليك ياوعدي يابخت سعدي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
عليك أنادى فى كل وادى
قصدي ومرادي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
الله اكبر عليك يا سكر
يا جابر اجبر
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
ماعيتشي أبكي وفيه مدبر مين بس ينكر زغلول يابلح
ياروح بلادك ليه طال بعادك
تعا صون بلادك
وغنت له منيرة المهدية أغنيتها الشهيرة شالوا الحمام الذي كتبت لمناجاة سعد زعلول في منفاه
وصية مصطفى كامل التي صنعت النشيد الوطني
ما أن تعزف ألحانه يقشعر بدنك ولا تخطأه اذناك ولإيقاعه مفعول السحر على مراكز الأحساس، نسبه البعض إلى سيد درويش وتجهل الأغلبية مؤلفه وتجهل اسمه إن ذكر.
عام 1920 في أعقاب نفى زغلول وزملاءه في شهدت البلاد حالة شعبية غاضبة وخرج المصريون في الشوارع للتظاهر ضد المحتل الانجليزي، وأراد القاضي ورفيق دربه سيد درويش استنهاض الهمم على طريقتهم الخاصة وقرروا تأليف نشيد يعبر عن المقاومة الشعبية يردده المصريين في تظاهراتهم، وكلف درويش صديقه الشيخ يونس بمهمة كتابة هذا النشيد، لتدفعه الأقدار دون إرادة منه أن يكتب كلمات ظلت باقية حتى يومنا هذا لتخلد ذكراه
عكف القاضي على كتابة نشيد يمثل المصريين، ومازال في راسه وصايا أستاذه مصطفى كامل الذي رحل قبل 12 عام، وتذكر خطبة الزعيم الشهيرة التى ألقاها في 22أكتوبر عام 1907 ، وقال فيها ” بلادي.. بلادي، لكِ حبى وفؤادي، لكِ حياتي ووجودي، لكِ دمي ونفسي، لكِ عقلي ولساني، لكِ حبي وحياتي، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بكِ، يا مصر”.
ترجم القاضي كلمات كامل على طريقته الزجلية، وكتب النشيد الأهم في تاريخ مصر الحديث وجاءت كلماته حسب ما ورد في الوثيقة الأصلية لتسجيله في المحكمة المختلطة والمكتوب بخط يده والمذيلة بتوقيعه بتاريخ 26 يناير 1923.
بلادي بلادي ……لكي حبي وفؤادي
مصر يا ست البلاد، أنتِ غايتي والمراد، وعلى كل العباد، كم لنيلك من أيادي
أنتِ لي نعم الوطن، اشتري صفو الزمن، زاد مع الروح له ثمن، وعلى الله اعتمادي
كل أولادك جنودك، أوفياء يصونوا عهودك، قصدهم تكسير قيودك، باتحادهم واتحادي
مصر أنتِ أغلى درة، فوق جبين الدهر غرة، يا بلادي عيشي حرة، وأسعدي رغم الأعادي
كتب القاضي هذه الكلمات ولحنها سيد درويش والتقطها المصريين كونها تعبر عن المزاج الشعبي الثوري وقتها، لم يكن الشيخ يونس يعلم أن كلماته ستظل رمزا للوطن بعد عشرات السنوات، في عام 1979 كلف الرئيس المصري وقتها أنور السادات الموسيقار محمد عبد الوهاب باختيار نشيد وطني جديد ، ليعود ويعرض عليه نشيد بلادي بعد أن أدخل عليه بعض التعديلات وأعاد توزيع اللحن، ليعزف السلام الوطني الجديد عقب عودة السادات من توقيع اتفاقية السلام في واشنطن عام 1979 .
رحل القاضي عام 1969 قبل عشر سنوات كاملة من أختيار كلماته ليتداولها الأجيال وتصبح أيقونة لشحذ الهمم يرددها الجميع في أوقات الانتصار ولحظات الانكسار كونها أنشودة تعبر عن أصدق مشاعر الانتماء.