كانت هناك مقطوعة موسيقية صغيرة تفصل بين جملة شادية الأولى مصر اليوم .. تانتانتا .. مصر اليوم فى عيد تجعلنا نحن طلبة شهادة الإعدادية حينما تعرفنا لأول مرة على عيد تحرير سيناء نردد جملة مصر اليوم ونتمهل قليلا ندندن اللحن ونعود للوراء برؤوسنا مثل شادية ثم نعود للأمام فى حماسة طاغية تحرك بها شادية قصتها الشهيرة ونحن نقلدها بلا معنى لنكمل مصر اليوم فى عيد .
كانت هذه الأيام أسعد أيام طلاب مصر والتي تحوى الرصيد الأكبر من الإجازات .. أعياد المسيحين .. وشم النسيم .. وتحرير سيناء الممتد من اليوم الخامس والعشرين من إبريل حتى أول مايو مع عيد العمال .. كانوا أجمل أسبوع أجازة متصل تهبه لنا حكومتنا السخية الإجازات لذا فمشاعر حماستنا فى تقليد شادية وهى تغنى مصر اليوم فى عيد لم تكن مزيفة أو أقل من جلال الحدث تماما .. لا فمصر اليوم فى عيد والعيد أجازة والاسبوع كله حقا أجازة .. يبقى فعلا عيد .
لكن هذا يلفت انتباهي لقضية أخرى وهو تفاعل المصريين عموما مع مايحدث فى سيناء باعتبارها أكثر المحافظات الحدودية المغرية ودائما ماعرف عنها تاريخها الممتد العريق مع الأنبياء ففيها كلم الله موسى فوق جبل الطور وفيها هربت مريم مع السيد المسيح وفيها قصة بلورة الصراع العربى الاسرئيلى الذى بدأ فى عهد موسى وتبلور فى منتصف القرن العشرين باعلان دولة إسرائيل ومازال مستمرا تارة ومتطبعا تارة أخرى حتى لحظة كتابة هذه السطور .
كنت أراها وأنا طفلة بوعى طفولى ساذج مكان ملىء بالمشاكل ويمكننا ان نقصه من الخريطة على الأقل مصر تبقى إفريقية خالصة بلا انتماءات لقارات اخرى وستنتهى مشاكلنا بدلا من الحرب وتكرار جملة مخيفة تماما فى طفولتي ان سينا شربت دم المصريين اكتر مامصر شربت من مية النيل .. كنت أنظر لمدرس التاريخ واقول له داخلى وفخور اووى بالتشبيه إن مية مصر زى دم شبابها نتعامل معهما كشلال حياة طبيعى لابد أن يتدفق بلا وعى او إرادة ؛ لذلك وفور أن قامت إتفاقية السلام فى وعيى بقراءة التاريخ وافقتها بلا فهم مدروس فقط كي تتوقف هذه الأرض الشرسة عن ريها بالدماء ولكنها أيضا لم تتوقف .
هناك مدن تكون ذات أقدار تاريخية لاتتوقف ابدا بتغيير الزمان والظروف .. وسيناء ذات القدر التاريخى عبر العصور الزمنية تثبت لنا انها لم تخلق لتكون بلدة سلام نائية يحكمها محافظ ذو خلفية عسكرية لتكون فى أمان ؛ لكن أصبح من الطبيعى أن تكون سيناء فى مربع خطرها الدائم تحت حراسة أمنية مشددة مثل بنت السلطان الجميلة التي يموت على بابها يوميا خيرة شباب بلدها لكى يثبتوا لها أنهم دوما طوع الأمر والبنان وبدون أي وعود بالدخول فى منطقة أمان مريحة .. فكل شبابنا الذين ذهبوا إلى سيناء يعلمون جيدا إنهم قد لايعودوا ورغم ذلك يذهبون بلا تردد.. وكأن سيناء هى بلاد الواق الواق فى قصص الف ليلة وليلة التى تنقبض من ذكرها الأمهات اللواتي يخبرها ابنها بالذهاب لسيناء فى اى مهمة جيش او عمل او حتى دراسة جامعية فى جامعتها الشهيرة .. فمن يذهب إلى سيناء طائعا او مجبرا سيظل فى خطر وان مات ولو ميتة عادية فقد انتشر صيته بين الناس أنه مات فى سيناء فبديهيا انه مات شهيدا وهى ميتة لاتعد كذلك فى اى محافظة أخرى .. فنقول مات فى القاهرة او الاسكندرية او الشرقية فلا يتأثر أحد ولكن حين نقول مات فى سيناء .. ينطلق التوحيد والحوقلة وينصب فوق رؤوس اليهود والارهابيبن دعوات خطيرة السيناريو لو تحققت من حيث لايدرون .
كان بليغ ووردة يقفون أمام الإذاعة معتصمين ليسمحوا لهم بالغناء لسيناء وجنودها فى حرب التحرير ولم يكن هناك ميزانية للغناء وكل شىء ذهب للميزانية الحربية فالبلد فى حرب .. وسمحوا لهم أخيرا طالما كانت أجورهم تطوعية مع فرقهم العازفة وخرجت لنا أغنية “وانا على الربابة بغنى ” ليقف الجندى فوق دبابته فخورا ممسكا سلاحه كربابة عازفا بطلقاته لحن الانتصار وهو يغنى بقوة وانا على الربابة بغنى .. اى روح فدائية تمكنت من بليغ بتأليف هذا اللحن مع صوت وردة ليسرى عبر ماسبيرو إلى كل قنوات الخطر فتتحول إلى ساحة فنية يتخيل فيها الجنود أنهم يعزفون لحن صولو مميز فوق الربابة فتكون قوة الجيش المصرى الأولى فى معنوياته وليس فى تسليحه ولا فى خططه على الإطلاق لنسطر بذلك اهم نظريات تاريخ الحروب الحديث عن تغيير مصائرها تماما والذى لايتأتى بأى سبب مادى أو تكتيكى ولكن برؤية الجنود فقط أنهم قادرين على هذه الحرب مهما بلغت صعوبتها ليسطر الجندى المصرى رسائل جديدة فى حب سيناء يدخل بها قائمة الجندى الأفضل عالميا فى القتال لأجل مايحب الفوز به .
ان نجاح الدراما الحربية فى كل فيلم ومسلسل يجازف بعض الصناع أحيانا بتقديمه رغم مرور كل هذه السنين على فكرة تحرير سيناء وهى فى كل يوم مازال هناك من يدفع ثمنا لاينتهى لهذا التحرير تدل على أن المصريين مازالوا رغم مرور السنين مهووسين بعشق بطولاتهم على أرض سيناء ولم يفكروا فى اى يوم بالتخلى عنها لصالح اى عدو يحمل منطقا عدوانيا يبرره بكتاب مقدس توارة كان ام قرآن .. لكن سيناء ليست ملك دين فقط كما يتنازعون بل هى ملك دم شهيد حمل فكرة شرف الارض وهو يدافع عنها ويحلف بسماها وبترابها .
سيناء فى وجدان كافة المصريين أرض البطولات والامجاد التى تجدد بجراحها الساخنة دوما جراح كل النساء اللواتى فقدن اقاربهن فى سيناء على مراحل أعمارهن فالجدة التى فقدت اخا فى النكسة ولم تدفن جثته ولاتعرف له قبرا مازالت تتألم والزوجة التى فقدت زوجها فى حرب التحرير وعاشت تربى أبنائها وحدها وسط كومة نياشين فى علب قطيفة مازالت تتألم والام التى قدمت ابنها فى عصر السلام فى جيش مفتوح الجبهات على عناصر تخريبية واحتلالية ستظل كذلك تتألم .. كلما رأت وجع أم جربت شعورا قاسيا ليس سهلا عليها هضمه .. وأبناء شهداء سيناء فى كل حروب مصر والذين يرون أبناء المنسى يحملون صورة ابيهم ويصورون أنفسهم بتقنيات حديثة معه ان أعمارهم كبرت وهو مازال موجودا بينهم ، يتذكرون ويؤلمهم يتمهم من جديد .. ولكنهم يجلسون بعد الافطار يوميا ليشاهدوا دراما البطولات ويحكوا قصص ألمهم مع سيناء بافتخار .. وفنانو الدراما الذين يكتبون هذه القصص يتألمون فى كتابتها وإخراجها وعرضها .. هذه الدراما بالذات لاتنجح لوسامة الأبطال ولا لشياكة فساتين البطلات ولا لجمال الخلفيات الجمالية التى تبين الجودة الفنية بل تنجح لايمان أبطال هذا العمل بأهمية مايفعلونه ليصل للمتفرج صادقا ساخنا قويا .. وترتعش به الصدور المتهدجة وهى تشاهده .. ويرتعش معها قلب مدرس التاريخ وهو يحكيها فى افتخار يورثه لطلاب بلهاء مثلى يهللون للأجازة كل نهاية إبريل ويرددون مصر اليوم فى عيد والحقيقة ان مصر كل يوم فى جنازة شهيد لكنها تتعامل مع الالم بكل فرد فى شعبها أن وفاته فى بطولة هو أروع عيد.