“السلطان منحه نيشان” تفكيك قصة العداوة بين عبدالحميد الثاني وتيودور هرتزل بسبب فلسطين
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تظل قصة اللقاءات بين السلطان العثماني عبدالحميد الثاني وتيودور هرتزل حول شراء الصهاينة أرض فلسطين، محط خلاف بين مؤيدي ومعارضي الدولة العثمانية حتى الآن.
المؤيدين للدولة العثمانية رأوا أن عبدالحميد الثاني طرد هرتزل ورفض بيع فلسطين، والمعارضين للدولة العثمانية رأوا أن السلطان بعد رفضه رضخ لهرتزل بدليل كمية المستوطنات التي بنيت في فلسطين خلال توليه الحكم العثماني بين أغسطس 1876م وإبريل 1909م.
تعقيب حول كتابٍ صار أزمة تناول قصة عبدالحميد الثاني وتيودور هرتزل وفلسطين
هناك قول مشهور منسوب إلى السلطان عبدالحميد الثاني حول موقفه من عروض تيودور هرتزل بشراء أراضي في فلسطين للصهاينة وهو قوله «ليوفر اليهود مليارتهم فإذا قسمت إمبراطوريتي ربما يحصلون على فلسطين بلا مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا، أنا لن أقبل بتشريحنا ونحن أحياء».
تاريخيًا هذا القول صحيح وأقر به هرتزل نفسه في ص378 من مذكراته (بالنسخة الأجنبية)[1]، وكان هذا الرد شفويًا وحمله من السلطان إلى هرتزل صديقًا مشتركًا هو فيليب نيولنسكي الصحفي النمساوي ومسؤول الإدارة السياسية في السفارة النمساوية باسطنبول وذلك في 26 يونيو سنة 1896م.
بعد 108 سنة من المقولة المشهورة، أصدر مركز دراسات الوحدة العربية في لبنان كتابًا للمؤرخة فدوى نصيرات بعنوان دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين؛ وأحدث الكتاب جدلاً كبيرًا في أوساط الباحثين.
حتى الآن ورغم انتقاداتٍ موضوعية إلى حدٍ ما للكتاب[2]، لم ينفي أحد المعلومات الواردة فيه، فكافة المعلومات التاريخية الواردة كـ معلومات حدثت بالفعل خاصةً وأن المؤرخة نوعت مصادرها بين مؤيد ومعارض بل وتاريخ رسمي.
لكن مأزق الكتاب الحقيقي تمثل في أمر واحد وهو مصطلحي (تسهيل) و(سيطرة) الواردين في عنوان الكتاب، إذ أن العنوان يوحي أو يعطي انطباعًا بشكلٍ مباشر أن هناك صفقة سرية ما أبرمت بين عبدالحميد الثاني وهرتزل، على الرغم أن الكتاب قال بشكلٍ صريح أن عبدالحميد الثاني رفض عروض هرتزل.
وللدقة وطبقًا للمعلومات الواردة في الكتاب كان ينبغي للمؤرخة أن تضيف مصطلح (ضعف) قبل اسم عبدالحميد الثاني وتسبدل كلمة (سيطرة) بكلمتي (بدء الوجود) فيكون عنوان الكتاب «دور ضعف السلطان عبدالحميد الثاني في بدء الوجود الصهيوني على فلسطين» فذلك العنوان الافتراضي يقول به نص الكتاب، حتى يكون هناك سببًا معروفًا لكمية المستوطنات والهجرات الصهيونية التي حدثت في ظل حكم السلطان عبدالحميد الثاني.
هل يتحمل ضعف عبدالحميد الثاني مسؤولية التواجد الصهيوني في فلسطين ؟
بلا شك فإن السلطان عبدالحميد الثاني كصاحب سلطة كان شديد الضعف وضعفه هو السبب الرئيسي والأساسي وراء بدء التواجد الصهيوني في فلسطين.
ورفض السلطان العثماني وتشدده في ذلك بشكلٍ صارم لم يكن فعالاً، ويدلل على ذلك مثلاً أنه في إبريل 1882م أعلنت الدولة العثمانية أنه لن تسمح لليهود بالهجرة لفلسطين، وإنما لهم حق الهجرة لأي ولاية عثمانية ويستقروا فيها بشرط أن يصبحوا رعايا عثمانيين تطبق عليهم الفرامانات.
ذلك الفرمان لم يكن له أي تأثير لأن اتفاقيات الامتيازات الأجنبية الموقعة بين أوروبا والدولة العثمانية تناقض ذلك القرار، فتراجع عبدالحميد عن ذلك لاحقًا سنة 1898م حيث أصدر قرار بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز مالم يدفعوا تأمينًا ويقدموا تعهدًا بالمغادرة خلال 30 يوم، ثم عدل الفرمان بعد ذلك بسنة وألغى مدة الإقامة وجعلها من شهر لـ 3 أشهر.
يترآى من ذلك أن عبدالحميد الثاني أراد أن يكون مناورًا مع هرتزل حتى يستفيد منه في مسألة الأرمن وحل ديون الدولة العثمانية، وهو وإن لم يسمح بالهجرة الصهيونية لليهود لكنه اقترح أن يدخلوا فلسطين كرجال أعمال أصدقاء وهو الشيء الذي رفضه هرتزل كما ذكر في مذكراته؛ وبالتالي فإن مناورات عبدالحميد الثاني من أجل الديون قوبلت بمراوغاتٍ من تيودور هرتزل رغم خسارته، فقد خسر أن يأخذ تصديق من السلطان العثماني ببيع فلسطين كلها والاستيطان فيها، لكنه نجح في أن يجعلها قضية رأي عام غربي ونجح في أن يضع الفكر الصهيوني على خريطة الدول العظمى سياسيًا.
اقرأ أيضًا
المجهول عن تاريخ القدس والدولة العثمانية “مراحل التورط العثماني في ضياع فلسطين
لم يقم أحد من مؤرخي الدولة العثمانية بذكر تفاصيل لقاءات السلطان عبدالحميد الثاني وتيودور هرتزل وكافة المراجع المتاحة عن ذلك هي مذكرات هرتزل، وأخبار الصحافة العربية حينها[3]،وبالطبع سيشكك الناس في الاثنين لأن الصحافة (حسب وصفهم ـ تكذب -) وهرتزل أيضًا كاذب.
لكن لو قبلنا بذلك فإن الأرقام والتواريخ من السجلات الرسمية تشير إلى نجاح الصهاينة في تأسيس 99 مستوطنة في فلسطين وكلها خلال حكم السلطان عبدالحميد الثاني.[4]
بناءًا على ما سبق .. هل عبدالحميد الثاني المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل ؟
بعد صدور كتاب المؤرخة الراحلة فدوى نصيرات باتت عناوين أغلب المواقع التي تتخذ صفًا معاديًا للدولة العثمانية، تنعته بوصف «المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل».
في إشارة إلى أن بداية كثيرة المستوطنات اليهودية الموجودة في فلسطين تم بناءها خلال العصر الحميدي ولاحقًا قامت عليها الدولة الإسرائيلية.
وبعيدًا عن مساوئ الدولة العثمانية الكارثية في بلاد العرب عمومًا، وبمنأى عن النقاش عن الفصل بين العَثْمَنة والتتريك؛ لكن ذلك الوصف تاريخيًا غير منضبط وسطحي إلى حدٍ بعيد.
سطحية وصف عبدالحميد الثاني بمؤسس إسرائيل الحقيقي، ليس لأن دولة إسرائيل قامت بعد رحيله بـ 30 سنة، ولكن لأن الإجراءات الحقيقية والرسمية لتأسيس إسرائيل تمت بشكلٍ لا لا دخل للعثمانيين فيه باستثناء ضعفهم من جانب ولعوامل أخرى بعيدة عن عبدالحميد الثاني.
يدلل على ذلك أن رغبة المجتمع الدولي في تأسيس دولة لإسرائيل بالقدس زمن عبدالحميد الثاني لم تكن جدية وهو الشيء الذي عانى منه تيودور هرتزل حتى موته.
إضافةً إلى ذلك فإن بريطانيا هي المؤسسة الفعلية لدولة إسرائيل المزعومة في القدس وذلك من خلال مؤتمر كامبل بنرمان سنة 1907م، ثم وعد بلفور سنة 1917م، ومسؤولية العثمانيين هنا تكمن في ضعفهم إذ أن ضعف جيشهم أدى لضياع القدس ودخوله تحت الانتداب البريطاني.
حتى الانتداب البريطاني لم يبادر لتنفيذ وعد بلفور بعد احتلاله للقدس مباشرةً إذ ظل وعد بلفور غير منفذ طيلة 30 سنة بعد صدوره حتى صدر قرار تقسيم فلسطين سنة 1947م، ثم فشلت الجيوش العربية في هزيمة الصهاينة بعدها بعام؛ بالتالي عدم الكلام عن الإجراءات الفعلية والحقيقية لتأسيس إسرائيل وحصرها في عبدالحميد الثاني هو نوع من أنواع السطحية التاريخية، وليس ذلك في سياق الدفاع عن عبدالحميد ولا العثمانيين، لكن لأن خطورة تلك السطحية لا تُرِي الأجيال الجديدة الصورة الكاملة من عُهْر المجتمع الدولي وضعفنا نحن.
النيشان العثماني وتيودور هرتزل .. لماذا حدث التكريم السلطاني للصهيوني ؟
استلم تيودور هرتزل براءة الوسام العثماني الذي منحه السلطان عبدالحميد الثاني له في عام 1896م، وكتب تيودور هرتزل في 22 أكتوبر 1896م رسالة شكر لعبدالحميد الثاني قال له فيها «حينما يسر جلالتكم أن تقبلوا خدمات اليهود سيسعدهم أن يضعوا قواهم تحت تصرف ملكٍ عظيم».[5]
لم ينفي مؤيدي الدولة العثمانية تلك المسألة لدرجة أن وكالة الأناضول خصصت تحقيقيًا في ذلك لتبرير المسألة وذكرت أن عبدالحميد الثاني لم يمنحه الوسام من تلقاء نفسه وإنما هرتزل هو من طلب ذلك وقالت الوكالة «الواقعة ثابتة لكن تم اجتزاؤها من سياقها وظرفها التاريخي للإيهام بأن عبدالحميد مالأ الصهاينة وفرط في فلسطين، فقد كان دافع السلطان في أن يمنحه الوسام هو الاستفادة منه في إقناع الأرمن بالكف عن الثورة على السلطان وهو الأمر الذي أقحم هرتزل نفسه فيه طمعًا في أن يؤثر هذا على مواقف السلطان المتشددة تجاه الاستيطان اليهودي في فلسطين».[6]
ترتكن وكالة الأناضول في تقريرها عن مسألة أن هرتزل هو من طلب الوسام وليس المنح بفكرةٍ من السلطان عبدالحميد الثاني لما جاء كتبه الدكتور عبدالعزيز الشناوي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر، نقلاً عن الدكتور أحمد طربين في دراسته عن الخطط الصهيونية في فلسطين حيث قال «هرتزل خاطب السلطان قائلاً: إذا رفض السلطان أن يستقبلني، فليعطني على الأقل دليلاً مرئيًا على أنه بعد أن استمع إلى اقتراحي ورفضه، فإنه لا يزال يريد أن يبقي على نوع العلاقة بيننا: مثلًا وسامًا من رتبة عالية يبرهن على ذلك، إني لم أهتم يومًا بالأوسمة، ولا أهتم بها الآن، ولكني أريد شاهدًا أمام من أتعامل معهم في لندن أنني حزت قبولاً لدى السلطان».[7]
لكن تبرير وكالة الأناضول والذي صار مادةً أساسيةً لكافة مؤيدي الدولة العثمانية يفتقد إلى الأمانة التاريخية في ذكر قصة العلاقة السياسية بين السلطان عبدالحميد الثاني وهرتزل.
فالجانب الصحيح من تبرير الأناضول هو دور تيودور هرتزل الإعلامي لصالح الدولة العثمانية في العموم، إذ قام هرتزل من خلال جريدته جديد الصحافة الحرة بنشر المراسلات والأنباء التي في مصلحة حكومة السلطان العثماني وكرس الصحافة اليهودية بعموميتها في أوروبا لمصلحة الدولة العثمانية.[8]
لكن الجانب الذي أغفلته وكالة الأناضول هو تطور العلاقة إلى شكلٍ اقتصادي يكشف مدى ضعف الدولة العثمانية، ولم ينفي أحد من مؤرخي الدولة العثمانية ذلك رغم أن هرتزل كان قد ذكرها في مذكراته، إذ كان يسعى لحل ديون الدولة العثمانية في مقابل التوطين في فلسطين.
من هنا يظهر أمرين، أولهما رأي هرتزل في السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، والثاني موقف السلطان عبدالحميد من أغراض هرتزل.
يمكن أن نرى رأي هرتزل الحقيقي في عبدالحميد الثاني من خلال يومياته التي كتبها، ففي ص1092 من مذكراته (بالنسخة الانجليزية) قال «ست مرات اضطرني للذهاب قبل أن يوافق، إنه أحمق كبير ولص، وآخر أخباره أنه صادر البريد الأوروبي كله، يعتقد أنهم لن يعلنوا عليه عليه من أجل ذلك».[9]
وفي ص 1127 من مذكراته (بالنسخة الإنجليزية) قال «انطباعي عن السلطان أنه رجل ضعيف وجبان ولكنه طيب القلب، لا أعتبره داهية ولا صارمًا، بل سجينًا تعيسًا ترتكب بطانة طماعة رديئة سيئة السمعة باسمه أقبح رجس. ولو لم تكن الحركة الصهيونية بعهدتي لكنت ذهبت وكتبت مقالاً حررت به السجين المسكين، إن عبدالحميد اسم جماعي لمجموعة من أحط الخبائب، باسم تقترف الأفعال وتعلق جميع الفظائع والحقيقة أن المجرمين يحيطون بالعرش لكنه المسؤول أيضًا».[10]
أما فيما يتعلق بأمر موقف السلطان عبدالحميد الثاني من فلسطين فهو كان رافض للوجود الصهيوني ولكل مقترحات هرتزل وعرض عليه بدائل أخرى في أي ولاية من ولايات الدولة العثمانية، لكن رغم ذلك الرفض إلا أنه لم ينفذ لأن إجراءات عبدالحميد الثاني كانت رخوة وغير فعالة وأدت لوجود صهيوني.
[1] أنيس صايغ، يوميات هرتزل، ترجمة: هلدا شعبان صايغ، ط/1، مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1968م، ص35.
[2] محمد شعبان صوان، نظرات في كتاب “دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين” للدكتورة فدوى نصيرات، موقع الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب، 23 يناير 2015م
[3] أمثلة من الصحف التي تناولت استيطان الصهاينة وخطورة لقاءات عبدالحميد الثاني وتيودور هرتزل هي :-
- جريدة المقطم، عدد 23 أكتوبر 1897م، ص1
- مجلة المقتطف، مجلد 22، ج4 لسنة 1898م، ص310.
- مجلة المشرق، عدد 23، ديسمبر 1899م
- الأهرام، عدد 4 يونيو 1898م، ص1
- الأهرام، 17 ديسمبر 1898م، ص1
- الأهرام، 15 مارس 1899م، ص1
- الأهرام، 29 إبريل 1899م، ص1
- الأهرام، 19 ديسمبر 1900م، ص1
- الأهرام، 24 يونيو 1898م، ص1
- الأهرام، 9 يونيو 1901م، ص1.
- الأهرام، 29 إبريل 1899م، ص1
وللمزيد أكثر لمعرفة الصحف المصرية وموقفها انظر :-
سهام نصار، موقف الصحافة المصرية من الصهيونية 1897م – 1917م، ط/1، سلسلة تاريخ المصريين ج65، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م
[4] فدوى نصيرات، دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين، ط/1، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2014م، ص ص114–121.
[5] أنيس صايغ، يوميات هرتزل، ترجمة: هلدا شعبان صايغ، ط/1، مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1968م، ص ص45–46.
[6] إحسان الفقيه، لماذا قلّد السلطانُ عبد الحميد مؤسسَ الصهيونية وسامًا؟ (إضاءات عثمانية)، وكالة الأناضول، 16 يوليو 2020م
[7] عبدالعزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ج2، ط/1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2004م، ص ص247–248.
[8] حسان علي حلاق، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897م – 1909م، ط/1، جامعة بيروت العربية، لبنان، 1978م، ص126.
[9] أنيس صايغ، يوميات هرتزل، ترجمة: هلدا شعبان صايغ، ص172.
[10] المرجع السابق، ص ص178–179.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال