عبدالحميد الثاني والأرمن .. قصة الدم بعيدًا عن الهبد والهوى
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
وقع كثيرون في خلط كبير بشأن تاريخ عبدالحميد الثاني والأرمن باعتبارهما الثنائية الدموية في الدولة العثمانية، فراح الغالبية إلى تحويل المسألة لكربلائية تاريخية بعيدة عن الحقائق سواءًا في إدانة الدولة العثمانية أو الأرمن.
بالميزان .. ما هي مشكلة الأرمن بلا خلط ؟
المشهور بين الجميع أن مجازر العثمانيين بحق الأرمن تمت خلال الحرب العالمية الأولى وتلك الواقعة ليس للسلطان عبدالحميد الثاني دخل بها وإنما من نفذها جمعية الاتحاد والترقي ذات النزعة التركية بالتنسيق مع السلطنة.
الغير مشهور عند الغالبية هو أن الأرمن أنفسهم قبل إبادتهم الشهيرة في سنوات الحرب العالمية الأولى قاموا بمجازر دموية راح ضحيتها 5 مليون مسلم على مدار 100 سنة بحسب وثائق البريطانيين والروس.
أما ماليس متداول بالنسبة لكثيرين أن الدم الذي رسم علاقة العثمانيين بالأرمن كان الفصل الختامي لصلة صداقة بين الكنيسة الأرمينية والدولة العثمانية نفسها.
مرحلة ما قبل عبدالحميد الثاني والأرمن
يعترف السلطان عبدالحميد خلال مذكراته أن الأرمن كانوا أقوى دعائم الحكم العثماني وساهموا في تغيرات كثيرة داخل السلطنة حيث قال « لو جال المرء بنظره في تاريخ إمبراطوريتنا لثبت لديه أن الأرمن كانوا دائما أغنياء، فالأرمن متفوقون ماليا على رعايانا المسلمين، كما تقلدوا أعلى المناصب الوظيفية في الدولة بما فيها منصب الوزير الأعظم، حتى إن ثلث الموظفين من الأرمن، والحقيقة التي لا غبار عليها أن هؤلاء القوم يعرفون كيف يستفيدون من ثروات بلادنا، الأرمن أفضل من يتبنون العثمانية، وأفضل من يمثلونها، لقد خدموا حضارتنا وعملوا على الحفاظ على دولتنا، وظهر فيهم عثمانيون ممتازون بخدماتهم وحسن صداقتهم».
حين أطل العام 1877 وبدأ نفير الحروب بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية القيصرية قامت الأخير بمهاجمة البلقان والقوقاز من ناحية كردستان الشمالية، ولم يلتزم الأرمن الحياد في الحرب إذ دخلوا الجيش العثماني ضد روسيا بقرار باباوي من البطريرك نرسيس.
بداية الدم بين عبدالحميد الثاني والأرمن
كانت الهزيمة هي مصير الدولة العثمانية لعدم امتلاكها جيش قوي، وهناك كان قرار سياسة الأرض المحروقة حاضرًا على طاولة عبدالحميد الثاني حيث أن خسارة أي ولاية أرمينية يعني دخول روسيا لعاصمة السلطنة، فلجأت الدولة العثمانية إلى قتل الأرمن كإجراء احترازي في واقعة تدل على سذاجة سياسية من الدولة العثمانية نفسها.
اقرأ أيضًا
عبدالحميد الثاني ونظرته للرشوة: طالما بقشيش فعادي يعني
وقعت سلسلة مجازر عثمانية بحق الأرمن في فترة عبدالحميد الثاني من 1877 حتى 1896 في أماكن متفرقة مثل طرابزون وساسون والرها وبيره جك وخاربوت وتيكسار وفان واسطنبول وكلها بنسق واحد وهو القتل والتهجير.
يعلل هنري لايارد السفير البريطاني وقوع المجازر العثمانية بحق الأرمن بقوله «ضعف السلطات العثمانية المحلية، وفساد جباة الضرائب في تلك المناطق كان السبب الرئيس للمشاكل الحالية، وقد شاركت الشرطة المحلية في عمليت السرقة والسلب والنهب، وقد استغل بعض الجنود الأتراك العاملين في نقل المؤن إلى الجيش للعبث بأمن السكان الأرمن وارتكاب جرائم القتل والسرقة»؛ وفي 24 أغسطس سنة 1877 ترصد جريدة التايمز جريمة الـ 122 قرية في سهل الأشيكرد حيث مر عليها جيش إسلام باشا وقتل من كان فيها من مسيحيين بكل وحشية.
عبدالحميد الثاني والأرمن .. ماذا قال وبأي شيء اعترف ؟
من الصعب للغاية أن يتم التوصل إلى رأي نهائي من عبدالحميد الثاني في مجازر الأرمن لكمية التناقضات التي وقع فيها خلال مذكراته، فهو مثلاً أقر بفساد ولاة العثمانيين واستبدادهم، لكنه تغاضى عن ذكر المجازر الدموية التي نفذتها قوات فرق الفرسان الحميدية.
وبطريقة ساذجة قال السلطان عبدالحميد قصة أن الأرمن هم من يقتلون بعضهم ثم عاد ليقول أنه قتلهم لسحق تمردهم، حيث قال في مذكراته «بعض الأرمن ارتدوا ملابس الأتراك، وراحوا يقتلون مواطنيهم الأرمن الذين يحجمون عن مساعدتهم، ثم يقولون: ألا ترون الأتراك وهم يقتلوننا، وأنتم حتى الآن ما زلتم بعيدين عنا؟، ثم يدخلون القرى التركية ويمارسون ضد الشعب المسلم فيها مختلف أنواع القتل والتعذيب، من تلك شق الجسد بالسكين، وحشوه بالبارود ثم إشعاله».
في ختام حديثه عن الأرمن أقر عبدالحميد الثاني خلال مذكراته بإرساله جيشًا لإبادة قرى الأرمن التي رأت أن تستقل عن الدولة العثمانية بسبب فساد الولاة حيث قال«من أجل أن أخمد النزاع بين الأرمن والمسلمين أرسلت الجيش بقيادة المشير زكي باشا، إلى هذه المنطقة للعمل على سحق التمرد».
الأرمن والثأر الغشيم
لم يبدأ الأرمن بالدم فكانت عملياتهم كرد فعل إزاء عمليات جنود عبدالحميد الثاني لكن ثأرهم لم يأخذ الشكل السياسي وإنما اتخذ من الوجه العِرْقي هدفًا ورغم وجود 98 وثيقة عثمانية تؤكد أعمال الأرمن لكن يلجأ كثيرون لإنكار صحتها.
تؤكد وثائق روسيا القيصرية أن عدد القتلى المدنيين من المسلمين بعد عصر عبدالحميد وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى وصلت إلى نصف مليون مسلم، والعجيب أن ضابط روسي أقر بأن الأرمن لهم منافع في حربهم ضد العثمانيين لكنهم مستفزين في مواجهتهم للأهالي.
تحكي ناتاليا كاراملي في وثيقة رقم 73 من الأرشيف القيصري الروسي أنها كانت تعمل في الصليب الأحمر الروسي ورأت مجزرة بشعة قام بها أرشاك الأرميني مع صديقه أنترانيك حيث هاجما ملجأ أيتام وذبحا مالا يقل عن 20 طفل تركي وقتلوا 50 آخرين داخل قرى متفرقة.
أما الكولونيل الروسي «تواردو خليبوف» يؤكد على أن سقوط روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة الشيوعية كانت بمثابة قبلة الحياة للأرمن إذ أن دولة القيصر لم تكن تعطي الأمان للأرمن لكن مع الشيوعيين كانت فرصة مثالية لهم إذ دخلوا منطقة أرضروم وقتلوا أهلها داخل منازلهم بحجة نزع السلاح.
من النادر أن تتفق روسيا مع أمريكا في شيء لكن اتفاقهما كان على جرائم الأرمن إذ يشير أرشيف الكونجرس الأمريكي سنة 1919 أنه تم تشكيل لجنة نايلز وسزرلاند للإغاثة حيث قالت اللجنة «احتل الجيش الروسي المنطقة ثم انسحب منها، وما لبث الأرمن أن قاموا بارتكاب جرائم القتل والاغتصاب والحرق قاموا بكل الفظائع الرهيبة بحق المسلمين».
لماذا قضية الأرمن مشهورة ؟
سبب شهرة إبادة الأرمن دون جرائمهم هو الإجحاف التركي للموضوع إذ أن فكرة إنكار مجازر الأرمن كانت أتاتوركية المضمون، فتركيا خلال سنة 1919 نظمت محاكم عسكرية لقادة عثمانيين بحق جرائم الأرمن وكاد أن يتم تسوية الموضوع قضائيًا غير أن مصطفى كمال أتاتورك هو من أوقف سير المحاكمات لتورط جمعية تركيا الفتاة التي هو عضو فيها في جرائم إبادة الأرمن.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال