في “مصر قرآن كريم” وجدت سلواي
يشعر المرءُ منا أحيانًا بسئمه من كل ما يدور حوله فقد كثرت مناغص الدنيا وتعاظمت حتى بلغت الذروة، وليقينك بأن الدنيا ألهت الجميع وأصبح الكل يلهث وراءها من أجل مال أو شهرة وغيرها فلا أحد قد يهتم للإنصات إلى شكواك أو أن يستقطع لك جزءًا من وقته ليجالسك ويحاول قدر الإمكان أن يداعبك بخفة ظله أو أن يسعى جاهدًا لإيجاد حلول جدية لبعض عقباتك فيكون سببًا في تخفيف أثقالك، فحينما لا يجد الإنسان سلواه في وجود صديق يؤازره ولا في لحظات يقضيها متنقلًا بين صفحات السوشيال ميديا بعد أن أصبحت سيمتها التفاهة وسلعتها الأكثر مبيعًا هي الطُرهات.
فيلجأ المرء لمداواة جرحه بنفسه فيقرر الانعزال عن كل شيء وبالأخص الأمور التي تُنغص عليه حياته وتجعل منه شخصًا ناقمًا رُغم النعم التي تُصّب عليه صبًا، وبانعزاله قد يعمد إلى إغلاق كل مواقع التواصل الاجتماعي ويجعل من إرضاء نفسه ولملمة شتاته هدفًا أسمى فلا يبالي بأي أمر قد يعود على روحه بالسلب.
وهناك بضع أناسٍ ممن لامسوا هذه المشاعر وجدوا أن لملمة الشتات تكون بالرجوع إلى زمن ما قبل السوشيال ميديا التي سرقت أوقاتنا، وذلك بمعايشة بعض اللحظات الدافئة التي حرموا منها في ظل سرعة وتيرة الحياة كالتجمع مع العائلة وإعادة الروابط الأسرية التي أُتلفت بفعل الهواتف الذكية، أو بفعل شيءٍ محبب إلى القلب لكن ضيق الوقت حال بيننا وبين المداومة على القيام به.
وإذا كنت تُفضل قيامك بأي أمرٍ وأنت في قمة الاندماج، فقد تحب الاستماع إلى ما يطرب أذنيك، ويغذي روحك، وهذا ما قررت فعله من أيام فجالست والدتي وتشاركت معها شرب فنجان القهوة في الصباح الباكر، ولتستمد روحنا الطمأنينة مع شعور التلذذ بالقهوة قررت الاستماع إلى القرآن الكريم بصوت القراء المصريين القدامى الذين لديهم قوة سحرية في جعلك تستعيد الحنين إلى الماضي، فكان أول ما خطر ببالي أثير إذاعة القرآن الكريم لكني وللأسف بعد ما يقرب من ربع ساعة عدت خالية الوفاض، فلم أجد ما تتوق إليه نفسي من تلاوات نادرة وحناجر ذهبية بل تم إجباري على الاستماع إلى إعلانات الجمعيات الخيرية والمستشفيات وغيرها.
حينها لجئت إلى التلفاز بحثًا عن قناة ناقلة لآيات القرآن، ولحسن حظي وقع اختياري على قناة “مصر قرآن كريم” التي أعادت لي عبق البيوت المصرية البسيطة المعمورة بالبركة والدفء، ويتعالى منها أصوات محمود خليل الحصري، محمد صديق المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، محمد رفعت، محمود علي البنا، ومصطفى إسماعيل وغيرهم الكثير، هذه الأصوات التي تجعلك موقنًا بعبارة “قُرأ القرآن في مصر”.
خشوعٌ فاق المدى
داعبت أذناي تلاوة مرتلة لآيات من سورة “محمد” بصوت القارئ الشيخ محمد محمود الطبلاوي تصف أنهار الجنة “مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ”
وأثناء ترتيله تذكرت قول حنظلة بن الربيع الأسيدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- “نكون عندك تُذكرنا بالنار والجنة فكأنا رأي عين..”، فبسماعي لهذه الآية بهذا الصوت الرنان ويكأني رأيت هذه الأنهار دون مبالغة والتي هي في الحقيقة فوق تخيلاتي بالتأكيد لكن تدبري للآية فاق الحدود، والسبب في ذلك قطعًا خشوع الطبلاوي الذي تسرب إلى مستمعيه والذي يرجع الفضل إلى قناة “مصر قرآن كريم” في حثي على الاستئناس بصوته بعد عدم انجذابي لتلاوته المجودة والتي كعادة ما تكون مسجلة في الأعزية، وهذا لا يمثل رأيي بصوته فأنا لا أجرؤ بالأساس على المساس بتاريخه المنير ولا بما خلفه وراءه -عليه رحمة الله- من تسجيلات نادرة تهتز لها القلوب، لكنه كان ذوق شخصي ذهب أدراج الرياح منذ هذه اللحظة، وأدركت حينها استحقاقه لرئاسة نقابة القراء حوالي ٩ سنوات حتى وفاته في مايو ٢٠٢٠.
لم تطاوعني نفسي على إغلاق التلفاز أو تبديل القناة لساعات فلم يراودني الملل ولو لحظة، ففي وقت الصلوات تبث الآذان بأصوات عريقة لم ولن يضاهيها أحد على مدار الأزمان، فتنبهك لأداء صلاتك على وقتها وهذا أمرٌ مميز غفلت عنه معظم القنوات الناقلة للقرآن الكريم، فضلًا عن عدم لجوءها إلى المُقلدين فاقدي الهوية وغير المُجيدين الذين يغلب على تسجيلاتهم مؤثرات صوتية فجة تفقدك لذة الخشوع والتدبر، وبثها لتلاوات القُراء الذين ذاع صيتهم فليس هناك مسلم لا يحفظ أسماءهم عن ظهر قلب، ولم تقتصر على ذلك فحسب بل أبدعت بجمعها لأصوات مصرية أصيلة لم نتطرق لسماعها نحن الأجيال الحديثة التي لم تتعدى الثلاثين عامًا.
الزامل ابن المشايخ
على سبيل المثال الشيخ حمدي الزامل ابن عائلة المشايخ وقد أطلق هذا الاسم على عائلته لكثرة حُفاظ كتاب الله المنتمين إليها، وقد بدأ حفظ القرآن في الثالثة من عمره وأتمه في العاشرة، وعُرف بعذوبة صوته بين أهل قريته -منية محلة دمنة- بمحافظة الدقهلية وأثنى عليه الكثير من مشايخه بالمعهد الديني الأزهري الذي التحق به، ومن شدة حب الزامل لقراءة القرآن لم يُتم دراسته وتركها قبل إتمام المرحلة الثانوية وتفرغ للقراءة، وأُعجب الشيخ مصطفى إسماعيل بصوته حين مر صُدفة أمام سرادق عزاء بقرية شها كان يقرأ به حتى أنه أثنى عليه في حوار أحد الصحفيين معه بمجلة الكواكب قائلًا “المستقبل للمجيدين أمثال حمدي الزامل”، وفي لقاءٍ له مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في أحد المآتم رأه عبد الباسط وهو يقرأ فقال جملة من أروع ما يمكن “في وجود الشيخ حمدي الزامل يجب ألا يقرأ أحد”، لذا لم يكن غريبًا أن ينجح بامتياز من أول مرة في اختبارات الإذاعة المصرية عام ١٩٧٦.
نقيب قراء القرآن الكريم بالشرقية يُحفظ طلابه لوجه الله
أما عن أحمد محمد عامر فهو من تتلمذ على يديه ما يقرب من ٣٠ قارئًا من مشاهير القراء بإذاعة القرآن الكريم منهم فضيلة القارئ الشحات محمد أنور، وكان يعمل بوصية والده في تحفيظ القرآن لوجه الله دون تقاضي أي أجر، وهذا ينم عن والد جعل حب الله نصب عينيه، لذا حرص على أن يتم ابنه حفظ القرآن في صغره فقد أتم عامر الختم وعمره لا يتجاوز ١١ عامًا، وأتقن تجويده وتعلم قراءاته السبع في ١٣ من عمره، ولأن كلام الله كان محفورًا في صدره مكنه ذلك من اجتياز اختبار إذاعة القرآن الكريم من أول مرة عام ١٩٥٦، فالتحق بالإذاعة عام ١٩٥٩، لكنه لم يصدح صوته بالأثير إلا عام ١٩٦٣ ويرجع ذلك إلى الاضطرابات التي أصابت الدولة المصرية أثناء العدوان الثلاثي، وقد اختير الشيخ أحمد محمد عامر نقيبًا للقراء بمحافظة الشرقية كما أنه كان عضوًا بمجلس إدارة النقابة العامة لقراء القرآن الكريم بمصر تحت رئاسة الشيخ أبو العينين شيعشع، ومثَّل بمصر بصورة رائعة في العديد من الدول فحاز على العديد من التكريمات منها تكريم ملك ماليزيا له عام ١٩٧٠ ومنحه وسام التقدير.
“عمالقة القراء بنبراتهم المحفورة في ذاكرتنا، ونخبة من الشباب المعتمدين، قراءات مختلفة كاملة، وتلاوات نادرة، تُذاع لأول مرة على قناة مصر قرآن كريم” صَدق القائمين على القناة المتميزة حين جعلوا من هذه العبارة الدقيقة تعريفًا أو شعارًا لهم، والتي لا أبالغ حقًا في نعتها بأفضل قناة تلفزيونية ناقلة لآيات الذكر الحكيم في العالم.
“مصر قرآن كريم” تعتبر هي أول قناة مصرية مختصة بعرض قراءات متنوعة للقرآن الكريم، وكان تاريخ أول بث لها في فبراير ٢٠٢٠، وقد أطلقتها شركة المتحدة للخدمات الإعلامية على قمر النايل سات.. التردد ١١٨٦٢، معدل الترميز ٢٧٥٠٠، الاستقطاب رأسي.