همتك نعدل الكفة
791   مشاهدة  

قصر الملك .. قصة قصيرة لـ”سليم صفي الدين”

قصر الملك


بينما أنا في عملي بمكتبة القصر الملكي، انهمكت في قراءة نص الجبتانا المصري القديم، الذي يحكي قصة مانيتون السمنودي، الذي سلمه الإله حورس لفلاح مصري، وأمره أن يرعاه حتى الخامسة من عمره، ثم يسلمه إلى معبد مدينة منديس.. فوجدت أن هذه النصوص القديمة مليئة بالتشابهات التي تكشف عن علاقة وطيدة بين الأديان الحالية ونظيراتها القديمة، كأن هذا نقل من ذلك.. فهذا السمنودي أُسْرِيَ وعُرِجَ به وهو لم يغادر فراشه!

فجأة، سمعت صراخًا وأصواتًا متداخلة، قبل أن يقتحم عليّ حراس القصرِ المكتبة، فصحت فيهم:

  • من أذِن لكم بالدخول؟

لم يرد عليَّ أحد، بل طوقوني، وألقوني على الأرض، وقيدوا يديّ خلف ظهري، ثم جرجروني من قدميّ وأنا منكبّ على وجهي إلى الأرض، حتى أخرجوني إلى بهو القصر، وعدلوا من وضعيتي فصرت قاعدًا على قدميّ المطبقتين تحتي كأسرى الحرب..

حدث كل هذا بسرعة، ثم ما إن أفقت من الصدمة، حتى نظرت حولي، فكانت الفاجعة! كل الذين يفكرون في القصر، وأصحاب الأبحاث والعلوم، يقعدون مكبلين مثلي!

نظرت أمامي والرعب يتملكني، فوجدت كبير وكلاء الملك ينزل من أعلى الدرج، وهو ينظر إليّ بتحدٍّ. وقف قليلاً دون أن يبعد نظره عني ثم قال: ألم أقل لكم لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم؟

تزايد رعبي، وتصبب العرق من جسدي.. لا مفر.. الآن أزفت الآزفة!

أعمل في هذا القصر العظيم منذ وقت طويل. يُقال إنه مكون من سبعة طوابق، غير أننا جميعًا لم نر أيًّا منها! استلمت العمل في القصر مع والدي، الذي استلم العمل فيه مع والده أيضًا. فقد ولدت هنا وتربيت هنا، ويبدو أن رحيلي من الحياة سيكون هنا أيضًا.

كل شيء في هذا المكان مرصوص بدقة هندسية لا متناهية، كأن الذين عملوا على إنشاء هذا الصرح الضخم دقيق التكوين كانوا من صفوة علماء ومهندسي العالم. أتذكر ذات مرة عندما مر أحد العامين من جانب تمثال “ماعت” الذي توجد منه قطعتان، إحداهما على يمين الدرج والأخرى مقابلة لها تمامًا، فسقطت بعض معداته الثقيلة على قاعدة التمثال، وهو يصعد مرتبكًا ومسرعا كي يقف أمام أحد وكلاء الملك بعد استدعائه له. لم تمر لحظات، حتى انتفض الجميع مسرعًا، وفُرض حظر تجول على الجميع من أثر الخوف والرهبة، وجاء كثير من رجال العسكر، والتفّ الكل حول التمثال، وتولّى المختصون ضبط زواياه حتى يعود مقابلاً تمامًا لقطعته الأخرى.. كل هذا فقط لأن القطعة شُكَّ أنها تحركت أقل من ملليمتر واحد، أو أصابها ضرر طفيف.

أنا مسؤول عن مكتبة القصر، التي تحوي كل شيء يخص الثقافة والعلم والأديان والتاريخ. أشعر منذ توليت مهمتي بتكليف مباشر من الملك، أو هكذا يقال، أنني ملكت العالم، فبعد إنهاء دراستي الجامعية، وبفضل دراسة الفلسفة، عشقت القراءة، فروحي تنهل منها، وبها أسافر عبر الزمن، في عالم من الخيال المُشكل هواؤه من الأسئلة وأشجاره من الحكمة، وأرضيته من العلم وسماؤه من النسبية، وأمطارها من التجلي والعرفان.

لضيق الحال، لم أستطع استكمال دراستي العليا، فقبلت الوظيفة على مضض، ولكن بعدما تعرفت إلى المكتبة، تصادقنا، فوهبتني علمًا ومعرفة لم أكن لأحصل عليها حتى وإن حصلت على درجة الدكتوراه. نعم، فالعلم في حد ذاته غاية، وهو وسيلة الغايات كلها، فلا يمكن أن نعتبر شخصًا ما عالمًا لأنه حصل على دكتوراه، وآخر جاهلاً رغم حكمته وبلاغته في الشعر والأدب لأنه لم يكمل الابتدائية. شعرت حينها أن الملك اصطفاني من وسط الجميع، ليوكل إليّ عملاً بالغ الأهمية مثل هذا.

الملك غامض، لم أره قط، وأعتقد أن أحدًا لم يره، حتى هذا الذي قال إن الملك استدعاه إلى حجرته ودخل إليه فعلاً على غرار مانيتون السمنودي، فلم ير أي أحد تلك الواقعة، إنما هو حكاها لهم قبل موته بفترة، ولأنه كان صادقًا وأمينا، صدقه كثير من سكان القصر، وسخر منه البعض الآخر.

رغم عراقة المكتبة، وأهميتها بالنسبة إلى الملك، فإنني أسمح باقتناء الكتب، ولا أفرق بين رعايا القصر. كل من يريد أن يقرأ، ليس عليه سوى أن يأتيني ويخبرني ماذا يريد، وأنا أحضره له. بعد مرور وقت طويل عليّ هنا، ولقتل الروتين يومي، قررت أن أكتب، وأنشأت صالونًا للتنوير، يأتي إليه المهتمون بالمعرفة، ونتجادل حول ماهية الملك، ورعاياه، وسر امتلاكه لهم، وطاعتهم له دون نقاش!

أشعر بحياتي كلها الآن تدور أمام عينيّ كالبرق، وأنا ثمل من أثر الصدمات المتتالية، والصفعات واللكمات التي وجهت لي في أثناء إلقاء القبض عليّ، كأنني أقص الحكاية على أحد! كأن كل الذين أتوني سرًّا ليسألوا والخوف يجلد ذواتهم، واقفون أمامي وأرد عليهم.

ذات مرة، جاءني شاب عشريني، يدرس علوم الدين في جامعة الوكلاء. كان بشوشًا مبتسمًا هادئًا، يرتدي جلبابًا واسعًا، ويحتضن رأسَه العقال، فهذا هو الزي الرسمي للوكلاء وطلبة الجامعة. استأذن في أن يستقطع من وقتي، فأذنت له، وجلسنا، أنا إلى مكتبي الفخم الأنيق بني اللون، وهو أمامي على كرسي فخم، أمامه قطعة مثله تمامًا شاغرة، وبينهما منضدة صغيرة، وكل هذا يقع بين أرفف عملاقة تحتضن الكتب.

نظر إليّ قائلاً بلغة فصحى:

  • سمعت كثيرًا عنك وعن أفكارك، وجئت أسأل: أنا أفعل كل ما يأمر به الملك، وأطيعه، ولكن أشعر أحيانًا أنني أكذب على نفسي، ولا أفهم طبيعة ما أقوم به من طقوس! لماذا يجب علينا أن نقوم بنفس الأفعال كل يوم؟ ما الفائدة من هذا؟

 

تعجبت من الشاب! كيف لطالب مثله يُعَدُّ للرد على مثل هذه الأسئلة ويطمئن الناس ويقربهم من الملك، أن يسأل مثل هذه الأسئلة؟ إن كان هو ذاته يسأل بهذه الطريقة، فماذا عن العامة؟!

أشعلت سيجارة، وقلت:

  • كان أفضل تطلب عصير ليمون بدل القهوة.. ماعلش مش باعرف أتكلم فصحى غير في كتبي.

 

ابتسم بدافع ترضيتي وقال:

  • كلنا يسأل هذه الأسئلة، ولكن في مراحل عمرية مختلفة.. أنا لم يسبق لي أن سألت، فكل من سأل نُبِذَ واتُّهِم بالخروج على قانون الملك.

 

تناقشنا كثيرًا يومها، وحين قام كانت عيناه قد اغرورقتا بالدموع، وقال دون أن ينظر إليّ:

  • ليتني لم أسأل، أنا عارف كويس آخرة السؤال إيه!

 

لقد فاجأتني تلك الزيارة الغريبة! فذلك الطالب يُعَدُّ ليكون أحد أهم وكلاء الملك. وإن كانت مسايرة التطور أمرًا مهمًّا، فإن التطور عند هؤلاء يُختَصَر في صناعة وكلاء صغار في السن يملكون نفس لغة الخطاب، دون أي جديد.

 

المكتبة تحمل بين جنباتها كل العلم، الطب والموسيقى والهندسة، والفلسفة التي اتخذتها خلاصًا لي، فهي التي تحملني إلى السؤال، وتجعلني أتصارعه معه، ثم تأخذني من محيطه إلى حيث أنظر إلى الإشكالية كلها من الخارج، فأبدأ في التحليل والتأويل والنظر والتدقيق، فأخرج بإجابة لا أقول إنها الحقيقة المطلقة، وإنما يكون في يقيني أنها الأقرب إلى الحق، ثم يأتي من يأتي بعدي ليصدق عليها أو ينفيها أو يعززها أو ينقدها. هذه هي الفلسفة وهذه هي روحها، هي التي تحملك إلى السؤال وتأخذك إلى الإجابة، ثم هي ذاتها التي تجعلك تَقبل النقد وتُقبِل على النقض بلا خوف ولا حزن على أي شيء.

يأتيني العلماء وفقهاء الدين، والذين يسعون لتملق الملك، ووكلاؤه وأفراد حاشيته، والساعون للعلم، ومَن فتنتهم الفلسفة.. كما يأتيني من أخذهم الحب الصوفي إلى حيث لا يعلمون ولا أعلم أنا، وهؤلاء تحديدًا يكون حديثهم ممزوجًا بكلمة الحب أكثر من مكنون الحديث ذاته، فلا أعرف هل يبحثون عن شيء بالفعل أم قد غمر الحب والعشق أرواحهم ففاض عليهم، فجاؤوا يلقون ببعض من الفيض على من يُقدّر الحب ويستمتع بصفاء حديثهم.

 

ولكن أيًّا من كان الزائر، فلا أجد أثقل على قلبي من زيارات فقراء القصر، الذين يأتون متسائلين: لماذا يتركنا الملك بلا طعام وبلا عدل؟ ولماذا لم تصِر الحياة اختبارًا وابتلاء إلا لنا؟ لماذا لم يُختَبَر الأغنياء والوكلاء؟! آه، الحياة كئيبة بما يكفي، والنظرة المتفائلة فيها عبث.. التشاؤم هو الأصل.. هو كينونة نظرات الغدِ كله، فإن كان القصر تحكمه مجموعة من المجرمين الممثَّلين في عسكريين ورأسماليين ملأ الجشع واستعباد الإنسان تفكيرهم الريعيّ، فكيف يمكن للمقتادين ببطش العسكر، أو طوق لقمة العيش الذي يغل أعناقهم، أن ينظروا إلى الغد نظرة متفائلة؟ أنا أرى أن من يتخذ تلك النظرة إما مجنون فقد عقله بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وإما مجرم في جنب الحقيقة!

 

ورغم هذه النظرة، فأنا أحب الحياة، لأنها فرصة لن تتكرر، والسبب في ذلك يعود إلى المعرفة والحب، فمنذ دخلت المكتبة وأنا أنهل منها دون توقف، عن القصر وبدايته، والملك ومعضلة وجوده، وكل هذا يمكن الوصول إليه بالبحث.

أحيانًا أشعر أن فيفالدي هو الوحيد الذي استطاع السفر عبر الزمن، سافر إلى حيث النقطة الأولى، حيث العدم، اللاشيء، لا فراغ، لا نور، لا ظُلمة، لا شيء إطلاقًا.. ثم نظر في كينونة الأشياء التي ستأتي، وأمامه يقف العدم كوحش عملاق لا يسمح بالتخلق من الأساس، فأخذ عصا كمانه الذي يحتضنه، وعبأ صدره بموسيقاه، ثم صرخ بها فانفجر الكون راقصًا مغنِّيًا على ألحان موسيقى الفصول الأربعة، ليمر بالبرد، والنار، والخريف، ونقطة عزف فيفالدي كانت الأرض، فأصابها الربيع، فتكونت الأشياء والأحياء والموجودات.

بالتأكيد أنا لا أقصد أن فيفالدي هو نفسه الخالق، فهو ذات مخلوقة، ولكني أقصد الموسيقى ذاتها، فهي وحدها التي تعرف ماهية الروح. وبما أن المعرفة لا تنتهي، فشغف الحياة لا ينفد.

 

في الفترة التي استلمت فيها العمل في المكتبة، تعرفت إلى نور، التي خفق القلب لها، فخُلِقتُ من جديد.. تفاصيلها تحاكي كل شيء أسأل عنه، ورسمها تدور فيه الأسئلة كلها. قبلها كانت علاقاتي كثيرة، ومنذ عرفتها، عرفت أن الاحتكاك والتفاعل مع جسد ما، هو ذاته ما نُحدِثُه من تفاعلٍ مع جسد آخر. فكل احتكاك بلا حب لا يعوَّل عليه، والفرق بين جسد وآخر هو تلاقي الأرواح قبل الأبدان.

اليوم سأرحل يا عزيزتي، فلا ملك، ولا شيء يُرجع هؤلاء الهمج عن التحكم في حياتنا البائسة.

 

قبل القبض عليّ بساعات قليلة، زارني أحد وكلاء الملك المقربين جدًّا، وهو شاب ذو ابتسامة سمجة يتميز بها كل وكلاء الملك، الذين يحبون التظاهر بالابتسام والهندمة، والحب الذي لا يعرفون عنه شيئًا، لأنه إحساس لا مظهر. تقدم الوكيل نحوي بسرعة كبيرة وخطى ثابتة وقال لي:

  • ممكن أتكلم معاك شوية؟

أذنت له سائلاً ماذا يحب أن يشرب، فطلب كوب ينسون، فاستدعيت عامل المكتبة، وطلبت منه قهوة لي وينسونًا لضيفي. وانتظر الضيف صامتًا حتى يأتي طلبه، وأمضى وقت الانتظار يطوف بعينيه في المكتبة كلها، فهذه أول مرة يزورها.

 

التقرب إلى الملك لا يعني أنه بذاته من أرسل ما يحمل في مضمونه أن هذا الشخص مقرب إليه، وإنما اجتماع الناس على أن هذا الوكيل فقيه في علم الملك. أنا لا أعرف أي علوم الملك هو الأقرب إليه، وهل هو عالم بكل العلوم، أم له علوم وعلوم، بما أنه أول من جاء في هذا القصر وحضر تأسيسه. يقال إن العلوم التي ظهرت في هذا القصر كلها تعود إليه، فهو الأعلم بها.

لا آخذ الحديث كله على محمل التصديق المطلق، إنما أسعى للفهم. حتى الملك نفسه، أحيانًا أشك في وجوده، أحيانا أشعر أن الطوابق السبعة وهْم، ليس لها وجود من الأساس. عندما أقف في منتصف بهو القصر تمامًا، لا أرى غير الطابق الذي نعيش فيه فقط، بينما الطوابق الأخرى ليست سوى فضاء خارجي وغلاف جوي فقط، فالقصر ليس له سقف منه إلى الفضاء.

لم أعرف إن كان هؤلاء القوم هم من صنعوا الملك، أم أن وكلاءه هم الذين أوجدوه كي تحيطهم القداسة فتعلو كلمتهم على كلمة الجميع، أم أن هؤلاء السياسيين الذين يحكمون القصر ويديرونه هم من أوجدوه، من أجل أن يقنعوا هؤلاء البؤساء بأن الفقر جزء لا يتجزأ من اختبار الملك لهم في هذا القصر الملعون.

عندما أشك في أن هناك طوابق أخرى، لا أعرف هل يقودني عقلي إلى يقين ما، أم إلى ما يريحني فقط لأهدأ من تلك الصراعات التي لا أول لها ولا آخر.

 

جاء العامل أخيرًا، ووضع القهوة أمامي، ووضع الينسون أمام الوكيل صاحب الابتسامة السمجة. فأخذت ارتشفت من فنجاني وأنا أنظر في عينيه، فقال أخيرًا:

  • سمعت كتير عن كتاباتك وفلسفتك ودعوتك إلى التفكير.. لم أتخيل أن يجمعنا حديث.

 

ثم رماني بابتسامة تحمل بين طياتها نذيرًا بالإهانة، واستكمل:

  • أنت لست عالمًا بعلوم الدين، ولست من الوكلاء أو المقربين، بل أنت كافر، تنكر وجود الملك!

ابتسمت قائلاً:

  • بأي حق تتهمني بكل هذه التهم؟

قال بتعجرف واستعلاء:

  • بحق العلم.. أنا عندي علم الشريعة التي أنزلها الملك، واصطفاني لأكون بها عالمًا وعليمًا.. أما أنت فماذا تملك؟

قلت:

إقرأ أيضا
بانورج
  • لا أملك شيئًا، ولكن أحاول أن أسأل وأجد الإجابات!

قال:

  • ولماذا كل هذا وقد جعل الملك لكل سؤال جوابًا؟ والسؤال الذي يعجز العقل عن إجابته فهو للملك، لأن عقلك القاصر لن يصل إلى كل شيء.. لا تسأل عما إذا أُبْدِيَ لك ساءك.

قال عبارته الأخيرة وهو يقف واضعًا يديه على المكتب، ناظرًا في عيني بتحدٍّ، ثم انصرف.

الحقيقة أن هذا الموقف ليس الأول من نوعه، فقد تكرر كثيرًا من قبل، لكن هذا الشاب هو السلاح الناعم للوكلاء والساسة، كلما استعصى عليهم شخص أو أمر، أظهروا هذا الشاب الذي يصطنع البشاشة ويتكلم بلغة الحب دون أن يدركها.

لم أكد أسند ظهري إلى كرسي المكتب، حتى جاءت طفلتي المدللة “فاطمة” وهي مرعوبة، تتلفت حولها وتنظر في كل الكتب والأماكن، كأنها تخشى عيونًا تراقبها، ثم قالت لي:

  • إزيك يا عمو؟

رددت:

  • كويس يا حبيبتي!

قالت كأنها تتخلص من حمل ثقيل:

  • كنت في المدرسة أنا ومريم صاحبتي، وفي حصة الدين خرّجوها من الفصل.. همّا ليه خرجوها؟ هو مش الدين للجميع؟

 

أدهشني السؤال. طفلة لم تتجاوز عشر سنوات من العمر تسأل بهذه الفصاحة!

قلت:

  • أيوة للجميع!

استطردت الطفلة:

  • الأستاذ محمد وهو بيشرح لنا في حصة الدين قال إن إحنا اللي حندخل الجنة، واللي مش على ديننا حيدخل النار.. بس أنا باحب مريم، فليه أدخل أنا الجنة وهي تروح النار؟

ثم تنهدَتْ والدموع تسقط كالمطر من عينيها، وشبكت كفيها الصغيرتين واستكملت:

  • لما سألت الأستاذ محمد السؤال دا قال لي: لأننا دين الحق، ودينهم محرف.. وأنا جيت لك عشان آخد دين مريم أقراه وأعرف هو محرف والا لأ.. عايزة أقول لها تيجي معايا في ديني عشان تدخل الجنة!

 

آه.. امتلاك الحقيقة المطلقة يعني نفي السلام من قلوب الناس!

صراعات الطفولة والأسئلة المحرمة، والمنطق والروح والبدن، والدين والدين الآخر، المطلق والنسبي، الملك وطوابقه السبعة، الأزل ونفي الوجود.. تحاصرني جميعًا، فكأن روحي تقول لي “لم ننته بعد”! حتى هذا القصر بموجوداته، قيل إنه بناه هو بيده قطعة قطعة، وقيل إن هناك ثمة انفجارًا حدث وكَوّن هذا الكيان العظيم. الصراع بين الروح والمادة مر، ولكن الفلسفة تحل كل الإشكاليات. في النهاية وقبل الرحيل، أرى أن الملك إن كان موجودًا فهو أكبر من كل هؤلاء الحمقى الذين يتحدثون باسمه! وأن أفضل الذين يدعون إليه هم حملة رايات الحب، الذين لا يفرقون بين إنسان وآخر بسبب دينه أو لونه أو عرقه. وإن كان غير موجود، فلا شك أن هؤلاء المحبين لهم منزلة عند الناس، وكذلك أرباب العلم المادي. فإن كان موجودًا فهو أكبر من كل الأديان، وإن لم يكن موجودًا فالأهم أن نتعايش معًا كبشر.

كنت أودّ أن أكمل بحثي في الصراع المؤرق بين المادي والروحي، المطلق والنسبي، بين موسيقى فيفالدي، والعبث والهمجية التي نسمعها الآن، ما بين حب محبوبتي والأجساد التي ترنحت فوقها كثيرًا، ما بين القصر والعالم الخارجي، بين كل شيء ونقيضه أسعى لفهم تلك المسافة التي تفصلهما..

ولكن.. لم يتبق الآن شيء! فقد حكم هؤلاء الوكلاء بإعدامي وإغلاق المكتبة!

اليوم إن كان الملك موجودًا وهو صاحب تلك العلوم فقد مات.. سوف يظل هذا الملك ربًّا للعنصرية والحقيقة المطلقة، وتوطين الفقر والرضا به، والسلطة المطلقة وبطشها، ولا أراه سوى ملك مجرم..

أما الملك الموجود في المكتبة، الرحيم المحب الباحث العالم الفيلسوف، فتشن عليه حربٌ ضروس.. والمكتبة التي تحث الناس على البحث والعلم والمعرفة بالزراعة والطب والحب والروح والجسد قد انتهت تمامًا..

هأنذا محكوم عليّ بالإعدام في قلب القصر ذاته الذي نشأت فيه، وكل جريمتي أنني طرحت الأسئلة..

اليوم أموت وأنا في المنتصف تمامًا بين كل نقيضين.. بين الإيمان والكفر، التصديق بوجوده والإصرار على نفيه، الإيمان بالروح والنفي بالعقل. لكن الإيمان اليقيني والمُطلق، رغم أنني ضد كل المطلقات وأومن بإطلاق النسبية، هو أن الحب ووحدة الإنسان الأهم..

يجب أن يعلم سكان القصر ألا خلاص لهم في أي شيء إلا بأن يكون كل منهم إنسانًا دون أي إضافات أخرى.. يجب أن يقبلوا أنفسهم أولاً كما هي، بعيوبها قبل مميزاتها، ثم يقبلوا الناس كذلك.

اليوم تنتهي حياتي دون أن أعلم إن كان الطابق السابع موجودًا، وهل يعيش فيه الملك فعلاً..

كنت أومن بأن حياتي عندما تنتهي سأذهب إلى العدم، لكنني الآن بين العدم والحياة، أنتظر أن ينزل هذا السيف عليّ ليفصل رقبتي عن جسمي، فإما أن أعرف كنه الروح.. وإما لا شيء.. لا شيء!






ما هو انطباعك؟
أحببته
12
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان