كارافاجيو.. فنان بدرجة قاتل تألق في الرسم وبرع في الخلافات والشجارات
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
من الطبيعي أن يحمل الرسام المبدع، أفضل المشاعر والسلوكيات بداخله، ولكن أن نجد فنان يحمل بداخله سلوك وتصرفات لا تشير أبدًا إلى ما أبدعه بقلمه أو ريشته فهذا ما يسمى بالخلل، فنرى ” كارافاجيو” قد كسر تلك القاعدة بلا جدال ولم يعرف تاريخ الفن فنانًا بهذه العبقرية المتوهجة والمزاج الدموي مثله، كانت حياته قصيرة غريبة مليئة بالعنف والهرب والقتل، كان يمارس العنف في الحانات ويتفاخر بحمل الخناجر والسيوف ويدخل في عراك مع من يعرف ومن لا يعرف.
حياته ونشأته
وُلد ” مايكل أنجيلو دي مريسي”، في عام 1571م بمدينة ميلانو، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة كارافاجيو وهو ما زال طفلًا وعنها أخذ اسمه الذى عرف به، ولكنه تتلمذ في ميلانو على يد تلاميذ الفنان الكبير تيتيان، وقد مايكل معروفًا في تلك الفترة بسوء خلقه، وعدوانيته الشديدة، وفي نفس الوقت ببراعته الكبيرة في الرسم.
عمل في روما في مرسم الفنان جوسيبى سيزارى يرسم نوعية اللوحات التي كانت تُقتنى لتزيين القصور، لوحات لسلال من الفاكهة وصبيان يعزفون الموسيقى أو يلعبون الورق وكان واضحًا في هذه اللوحات براعته الكبيرة وتمكنه الفذ من تقنيات التصوير وقدرته على تصوير موضوعاته بأسلوب طبيعي واقعي، وقد جذبت هذه اللوحات انتباه أحد أكبر رعاة الفن في روما الكاردينال فرانسيسكو دل مونتي.
أسلوبه الفني
في هذه المرحلة رسم لوحتين لباخوس إله الخمر عند الإغريق وكليهما استعمل فيها كارافاجيو نفسه كموديل وهو تقليد اتبعه في العديد من لوحاته بعد ذلك، وبعد ذلك فقد كارافاجيو عمله في مرسم سيزارى نتيجة مرضه وبعد أن تعافي قرر أن يعمل منفردًا ورسم بأسلوبه الواقعي لوحات مستوحاة من الأساطير والتراث الديني مثل ” توبة مريم المجدلية ” و”رحلة العائلة المقدسة “، وفي عام 1599م جاءته فرصة ذهبية عندما أسند إليه بتوصية من الكاردينال دل مونتي على تنفيذ لوحتين لتزيين مذبح كنيسة سان لويجى دي فرانسيس في روما لوحة ” نداء القديس ماثيو” ولوحة “استشهاد القديس ماثيو”.
وصل أسلوب كارافاجيو الطبيعي المتسم بالواقعية إلى قلوب الجمهور ومتذوقي الفن، ووجدت فيه الكنيسة الكاثوليكية ضالتها كأداة للتأثير على الجماهير في حربها ضد البروتستانت.
إقرأ أيضًا…قتل ابنه لصديقه وقول الكفراوي:”حديقته لو مسجدً أزلناها.. عن أيام أحمد مظهر الحزينة
جريمة قتل بسبب لينا
أصبح كارافاجيو بلا منازع أشهر فنان في روما وبرغم هذا فقد كانت حياته سلسلة من المشاحنات والمنازعات، وكان يدخل في الشجار لأتفه الأسباب، يعيش حياة كلها فسق وفجور ولا يأبه لأى مخاطر، وكان يخرج من مشكلة مع السلطات ليدخل في أخرى وكان يعتمد على علاقاته بالحكام للخروج من هذه المآزق، غير أن بداية العنف كانت بسبب فتاة اسمها “لينا” امرأة ذات جسد روماني جميل عشقها كارافاجيو، ووقع في غرامها رجل آخر اسمه “ماريانو باسكلوني” الذي ما أن علم كارافاجيو بغرامه لـ لينا حتى قتله.
المزيد من القتل
وفي عام 1606م قتل شخصًا في مبارزة بالسيف ولم تجدى علاقاته له نفعًا فاضطر لأن يلوذ بالهرب إلى نابولي بعيدًا عن سُلطة روما، ووصل نابولي في أوائل عام 1607م وتحت رعاية عائلة كولونا نفذ كارافاجيو عدة لوحات للكنيسة، إلا أنه ولسبب غير مفهوم غادر نابولي بعد عدة أشهر إلى جزيرة مالطا ليضع نفسه تحت رعاية “فرسان مالطة”، وهم جماعة من فرسان الكنيسة تكونت في الأصل لحماية الحجاج إلى بيت المقدس وبعد وقوعها في يد المسلمين انسحبوا إلى مالطة التي أصبحت مركزهم الرئيسي.
وفي مالطة رسم كارافاجيو عدة لوحات وتم تنصيبه فارسًا في الجماعة ومن أجمل ما نفذه في هذه الفترة لوحة ” مقتل يوحنا المعمدان” وهى أكبر لوحة نفذها في حياته إذ يبلغ طولها أكثر من خمسة أمتار وهى تصور مقتل يوحنا المعمدان بإيعاز من “سالومي” التي أرادت رأسه جائزة لرقصتها الخليعة أمام الملك هيرود، فهرب كارافاجيو إلى جزيرة صقلية ولم يتمكن من الاستقرار بها طويلًا لعدم شعوره بالأمان لوجود جائزة على رأسه وكثرة مطارديه من الساعين للانتقام أو الحصول على الجائزة فعاد إلى نابولي حيث الحماية تحت عائلة كولونا، ورسم في عام 1609م لوحته الرائعة “دافيد يحمل رأس جولايث” وقد رسم نفسه في اللوحة كرأس جولايث المقطوعة وأرسل هذه اللوحة إلى راعيه في روما الكاردينال سيبيونى بورجيزى ابن أخ البابا وكأنه يبعث برسالة مصورة “هذه هي رأسي عربونًا على الندم أقدمها لكم لتسمحوا لي بالعودة”.
نهاية القاتل العبقري
في هذه الفترة حاول البعض اغتياله والقصص غير واضحة في هذا الشأن وأذيع في روما أن الفنان العظيم قد قتل وفي روايات أخرى تم تشويهه بصورة بشعة، ولكنه ظهر بعد ذلك سليمًا معافي، واستمر في العمل وإجراء الاتصالات مع روما وفي منتصف عام 1610م وصلته أنباء عن قرب إصدار قرار العفو عنه فاستقل سفينة متجهة إلى روما ومعه لوحاته الأخيرة التي سيسترضى بها البابا لينال العفو، ويقال أن السفينة رحلت بدونه في ميناء بالقرب من توسكانيا في الطريق إلى روما نتيجة إلقائه في السجن بعد مشاجرة وأنه حاول اللحاق بالسفينة عبر المستنقعات وأصيب نتيجة لذلك بالتهاب رئوي أودى بحياته، وهكذا انتهت حياة هذا الفنان العظيم وهو مشرد وضائع، بعيدًا عن أهله ووطنه.
عندما ودع كارافاجيو الحياة كان في التاسعة والثلاثين من عمره، ولكنه في خلال هذا العمر القصير غيّر من شكل الفن وامتد تأثيره قرونًا عديدة من بعده، وإليه يعود الفضل في بلورة أسلوب يعتمد على التضاد الشديد بين الضوء والظل.
الكاتب
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال