كوفيد 19.. والحياة في زحامٍ من النِعم
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد
في الفيلم الجميل: “بين السماء والأرض“، قدّم “نجيب محفوظ” قصة شديدة الذكاء، عن مجموعة يجمعهم القدر سويًا كمحتجزين لعدة ساعات، داخل مصعد مُعطَّل بإحدى البنايات، عالق بين السماء والأرض.. بتوالي أحداث الفيلم، تجد أن المجموعة المتنافرة لا يجمعها إلا الخوف الذي سُرعان ما سيتسلل إلى قلوبهم بعد أن شعر كل واحد منهم أن الموت قريب، خصوصًا بعد أن يفارق أحدهم الحياة بالفعل بين أيديهم لأنه لم يتحمل نقص الأكسجين لمشاكل صحية يعاني منها.. ونشاهد كل منهم وهو يتعهد أنه لن يعود لما كان يرتكب من أخطاء.. وتأتي قوة الإنقاذ، ويخرجوا بسلام من مِحنتهم، ثم ينصرف كل منهم لما كان يفعل، والعجيب أن مشاهد النهاية تتوالى وكل منهم يعود لما كان عليه، كأن شيئًا لم يكن.
وينسى كل منهم ما قَطَعه على نفسه من عهد في لحظات الخوف.
بتأمل بسيط لحياتنا اليومية، وللأحداث الجارية، وللتاريخ قريبه وبعيده، ولكل شيء تقريبًا، تتأكد لك حقيقة أن الإنسان كائن “نسّاي” بطبعه، إلا فيما ندر.. ننسى ولا نتعلم من تجاربنا إلا بكثير من الألم، وأحيانًا لا نتعلم مُطلقًا، وننسى، ونكرر ما كُنّا نفعل، وتستمر الدائرة في انغلاقها على نفسها.
تمتلئ الآن صفحاتنا الشخصية على فيسبوك بوعود نتعهد أن ننفذها، بعدما تنقشع مِحنة السيد كوفيد 19″، وعود صادقة النوايا، وأنا نفسي كتبتُ شيئًا من هذا القبيل من خلال فيسبوك، كتبته بصدق وعيون دامعة في لحظة ضيق.
لكن بعد زوال الضيق عن نفسي، سألتُ نفسي: برغم كل الأجواء المُقبضة المحيطة، هل نحن الأسوأ حالًا بالفعل؟
حينها وجدتُني أتذكر حكاية خالي، الذي مات وهو لم يكمل العشرين من عمره، بعد إصابته في هوجة وباء “الكوليرا” الذي اجتاح مصر في ستينيات القرن الماضي، في زمن آخر كان الفقر والجهل المدقع يقودان المسيرة، مات بين يدي جدتي التي ظلّت تخدمه متجاهلة كل التحذيرات.. أسلم روحه لله في عصر ما قبل انتشار الكحول والمطهرات، بل إن الصابون لم يكن شائع الاستخدام في الريف وقتها.. لم أرَ جدتي “رحمها الله” حزينة كمثل حُزنها وهي تحكي عنه، وصوتها يردد بانكسار: “كُنا جهلة، والفقر راكبنا وعامينا.. معرفناش بتعبه غير لما خلاص أوان الأوان كان فات”.. تزورني الآن حكاية خالي رحمه الله، في كل مرة أغسل فيها يدي بالصابون، تنفيذًا لتعليمات الوقاية من وباء زماننا، أحمد الله على نعمة توافر الصابون، هذا الشيء “العادي” لي ولكَ، لكن قلوب في الماضي تمزّعت بفقد أحبائها، لأنه وأشياء كثيرة غيره يسيرة لنا، لم تكن حتى معروفة لهم.. وأقول في سري: الحمد لله.
هل يجب أن نتجاوز المِحنة لندرك نِعم الله علينا، ونتعهد بصونها وتقديرها بعد أن فقدنا الشعور بقيمتها عندما اعتدناها؟
أسأل نفسي، وتأتيني الإجابة، من خلال منشوران ظهرا لي تباعًا على صفحة “فيسبوك” العامة، واحد لصديق يكتب حزينًا عن غلق المساجد، وعن هواجسه أن هذا غضبٌ من الله علينا، وبعده مباشرة نشر صديق آخر، صورة تجمعه بزوجته وأولاده، ضاحكين للكاميرا، حاكيًا عن تجربة صلاة الجماعة التي خاضها بصحبة أسرته لأول مرة في منزلهم، وكيف وجد فيها روحانية ولطف وتقارب لم يشعر به منذ أمد.
وتأتيني خاطرة كالفراشة، عن شاب ألماني، لا أعرف له اسمًا، مات- مثل خالي- قبل أن يتم العشرين، في خندق ضيق كريه الرائحة، في سقيع بلاد السوفييت خلال الحرب العالمية الثانية، بعدما حشدته حكومة النازي بالإجبار، مع أقران له في مثل العمر، من خلال تدريبات تُعرِّفهم مبادئ العسكرية، ثم وجد كل منهم نفسه ممسكًا ببندقية، ويقاتل في بلد لا يعرف عنه شيئًا إلا البرد ورائحة الموت الزاحف، من أجل مجد “الرايخ” الألماني! سقط الرايخ، ومات الولد، ربما اخترقت رصاصة جسده في موضع قُرب القلب، لا ندري؛ هل كان يفكر قبل أن يُغمض عينيه للأبد، في أمه التي ودَّعته باكية تأمل في عودته، أم في حبيبةٍ في مِثل عمره، لم يسمح له الزمان أن يتذوق طعم الحياة المشتركة معها؟
مَن فينا المُبتلى بصدق: أنا، المُحاصَر في منزلي مؤقتًا وأنا معافى، معي ما يكفيني من الغذاء والكساء ووسائل الترفيه، أم هذا الشاب الألماني المجهول، المُحاصَر بين البارود والرعب، بمعدة شبه خاوية وقلب كسير؟
وأقول لنفسي أن الإدراك الحقيقي لا يأتي بعد المِحنة، كما نظن ونحن نُختَبر، بل يأتي في خضمها، تأتي منحة إدراك النِعم وأنت في خِضم التجربة، أو لا تأتي مُطلقًا، كحال مَن كان اختبارهم مُحاصَرين “بين السماء والأرض”.
اقرأ أيضا
الكاتب
-
أحمد مدحت
كاتب نجم جديد