592 مشاهدة
كومباوند الأخلاق الحميدة
يعتبر أسامة أنور عكاشة واحدا من أهم كتاب الدراما التلفزيونية بلا منازع، فهو يعتبر وإن صح التعبير واحدا من أدباء الدراما التلفزيونية.
أغلب ما قدمه من أعمال حاز على نجاح كبير، وهو من القلائل الذي كان الجمهور يتابع أعماله ككاتب بعيدا عن اسماء النجوم أو المخرج، فكانت الجملة الأشهر (شفت مسلسل أسامة أنور عكاشة الجديد؟).
أسامة أنور عكاشة من جيل تربى على قراءة الأدب، وساعده هذا هو وغيره من كتاب السيناريو من جيله أو من الجيل السابق عليه في إجادة كتابة السيناريو والحوار، فالرواية بعناصرها كانت هي المدرسة الأولى لهم، لذلك كانت كتابة السيناريو سهلة عليهم قبل انتشار ورش الكتابة وغيرها..
بالإضافة إلى الزخم السياسي الذي عاشه هو جيلة سواء في الحقبة الناصرية ومابعدها، جعل أغلبهم مفتون بفكرة البطل المثالي مصلح العالم ..
المتابع لأعماله سيجد أن أسامة أنور عكاشة مفتون بشخصية دون كيخوته أو كما ينطقها المصريون دون كيشوت للمؤلف الأسباني ثربانتيس، الفارس الذي جاء من زمن قديم ليصلح الزمن الحديث بقيم وأخلاقيات غير صالحة والواقع المعاش..
يظهر ولع أسامة أنور عكاشة بشخصية دون كيشوت في أعمال كثيرة له مثل (أرابيسك) في شخصية حسن النعماني و (رحلة السيد أبو العلا البشري) والذ تم تأكيدها من خلاله إعطاء أبو العلا لقب السيد، وأيضا في تتر المسلسل حيث شخصية دون كيشوت الفارس.
ولع (عكاشة) بالشخصية الدون كيشوتية لم يقتصر فقط على الأعمل التي أبطالها رجال، بل أيضا قام بإسقاطها على النساء كمسلسه (امرأة من زمن الحب)، و(ضمير أبلة حكمت)..
يظل مسلسلي رحلة السيد أبو العلا البشري وأبلة حكمت هم النموذجين الأكثر وضوحا لها التأثر، فالاثنان من زمن مختلف، ولم يتزوجا وعاشا معزولان عن العالم، حتى تم إجبارهما على مواجهة العالم..
الأول أبو البشري الذي يعيش في مدينة سخا، مهندسا للري دوره ترويض النهر الجامح، وتنظيم المياه بين الفلاحين والإشراف على بناء الترع، والذي خرج للمعاش ويحيا بين الكتب، والأفكار المجردة، ولم يختبر الحياة خارج عمله والمدينة الريفية التي يحيا فيها، حتى يقنعه ابن قريبه عمرو البشر بالنزول للقاهرة، فيصطحب معه ليلى الفتاة الفقيرة ابنة صديقه الراحل، ليقوم بفرض قيمه الأخلاقيه على عائلة أبناء عائلة البشري، ويتسبب في في العديد من المشاكل له وللمحيطين به، فهو يريد أن يصنع مدينة فاضلة دون النظر لأرض الواقع..
وحين يحصل على الأرض تأتي له فكرة بناء مشروع سكني ضخم لكي يقيم فيه مستعمرة الأخلاق إلا أنه يفشل ويتحول الأمر لكارثة، وحينما يقرر العودة فلا مكان له هنا، تجذبه نداهة الأخلاق ليلحق بمجدي البشري الذي يسافر لنجوى فرنسا بعد أن تركته، فقيمه الأخلاقية هي ما يجب أن تسود..
حكمت هاشم النموذج الأنثوي، تلك المرأة التربوية والتي تحيا في منزلها القديم، وتستخدم سيارة قديمة يقودها سائق كبير في السن ولم تتزوج هي الأخرى لتربي أخواتها، تعمل كناظرة لإحدى المدارس، ورغم أنها مشهورة بكفائتها، إلا أنها لا ترى العالم هي الأخرى إلا من خلال منظورها الأخلاقي، وبنفس الكيفية، تربي أحفاد القبطان باسم وبسمة التوأم، وتحصل على أموال من حبيبها السابق صلاح أبو رحاب ليضعها في نفس المأزق الأخلاقي الذي وضع فيه أبو العلا البشري، وأعتقد أنه لولا أم المسلسل كان بطولة فاتن حمامة لما جعل نهايته سعيدة، بخروجها من كل المآزق بسلام..
هذان المسلسلان وغيرهما من تأليف عكاشة وغيره، شوهوا في رأيي الشخصية المصرية، فجعل الحكم القيمي الشخصي على الناس هو أساس التعامل، والتدخل في حياة الآخرين تحت مسمى الإصلاح، فأبو العلا رأي في نفسه القيمة المطلقة هو وحكمت هاشم، والتي قامت بمنع احدى الطالبات سيئة السلوك من التعليم في جميع مدارس الجمهورية بناء على نفوذها دون محاولة لإصلاحها بجدية، فقد طردتها من جنة الأخلاق، لتقدم للمجتمع الذي لا تحيا فيه نموذجا فاسدا غير مقوم وغير متعلم، في حين بقليل من التحليليمكن للفتاة أن تتعلم في الخارج لتأتي أكثر شراسة ونقمة على المجتمع..
براعة رسم الشخصيات، وباعة الحوار الموزون على الشعرة، بالإضافة إلى حشد كبار الشعراء والموسيقيين لتغليف العملين بغلاف جميل، جعلنا نصدق فكرة الشخصية النموذجية، ونحاول الوصول إليها وتقليدها، فالدراما تتخلل العقل وتلعب على اللاوعي، خاصة وأن أغلب الجماهير بلا عقلية نقدية، وترى فيما يعرض على الشاشات مقدسا، وعلى وجه الخصوص جيلنا والجيل السابق، فقد استقبلنا تلك الأعمال في فترة الطفولة والمراهقة، فشكلوا وعي أغلب الجيل، وجاء على هوى الكبار من الجيل السابق، مما رسخ فكرة (الحشرية) في حياة الآخرين، والفضيلة المطلقة هي الحل، والمخطيء لا يعاد تأهيله بل نبذه فلا وجود له في كومباوند الأخلاق..
اقرأ أيضا
مع أول أيام شهر رجب “ردود متجددة على هبدة قديمة من يوسف زيدان”
الكاتب
ما هو انطباعك؟
