كيف أنقذني الأكل من الوحدة وعوضني عن غيابها؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
اعترف، أنني كتبت هذا الموضوع عن الأكل، جبرًا عني، رغبة في أن لا يغضب مني رئيس التحرير، أو تخفيفًا لوطأة الأمر، محبة لي منه، فقدر المحبة يغلب الغضب، وإلا فالخصم سيكون عاقبتي.
السبب يكمن في أن الكتابة عن الأكل مرتبط عندي بذكريات أقضي يومي كله في الهرب منها، أقاومها، أو ربما أجعلها خفيفة، هو الخوف!
الأكل في الصعيد نسميه “الوكل”، مفردة خالية من المذاق أو الاستمتاع، كور من الخبز، واللُقم، نقضي وقتًا قليلًا نخزنها في المعدة، كي نواصل اليوم، ليس لا، لم أعرف أنني من المفترض أن أستمتع بالأكل إلا عندما التقيتها، أصبح لكل شيء مذاقًا، وطعمًا خاصًا، أو بالأحرى: أصبح لكل شيء مذاقها!
لم أكن أعرف، في بلادنا، سوى الأكل الدسم، الذي يكتم المعدة، ربما لا يستطيع شخص من “بحري” أن يسير خطوتين فائقًا بعد تناوله، وقد تسوء الأمور وينقل إلى المتشفى، حتى أن “سبرنا” أي عادتنا أن نخفف من الأكل وحدة “تسبيكه” للضيوف من “البندر” تحت قانون “الستر حلو برضه”.
وتحت قانون “الستر” كانت أمي تستعين بزوجة خالي من الإسكندرية أن تجهز لي الأكل وليس “الوكل” الذي أسافر به فترة الجامعة، فأصدقائي هناك لن يتحملوا ولو “لقيمة” واحدة من طعامنا.
مرت الأيام، وتفتحت عيني على أن هناك “أكلا” وليس “وكلًا” في أثناء فترة تجنيدي، أكلت الطعام الخفيف، الشهي، اللذيذ، الذي تبتهج المعدة به، وكنت أتندر به أمام أصدقائي ” الذين كانوا يصفون أصدقاء التجنيد “ياعم دول عالم فاضية، أكل إيه، مش المهم المعدة تشتغل وخلاص”!
جئت إلى القاهرة، وعرفت أن للأكل متعة.
قضيت السنوات الأولى في القاهرة، وحيدًا، أتنقل بين المطاعم، أخزن الأكل في معدتي لتعمل فقط، وبمرور الوقت، بدأت أشعر بالوحدة، والتصقت هذه اللعنة بالأكل، يداي ترتعش، آكل وحدي، وحدي تمامًا، حتى من نفسي!
كنت بدلت “الوكل” إلى “الأكل”، وفي هذه المرحلة تحول إلى “طعام”، كلمة مثقفة،جاف، لا معنى لها، رمادية، لا مذاق لها!
بدأ شعوري بالوحدي، يزيد ويزيد، أصبح له ثقلًا في قلبي، أقاومه بداية من استيقاظي من النوم، تدربت على التدخين كي أخفف من وطأته، أربع أو خمسة أفلام سينمائية في اليوم الواحد، مقابل علبتين من السجائر، كي أتخلص من الوحدة، أتهرب من نفسي بعوالم السينما وشخوصها، قرأت الكتب، التهمتها،انهيت هارد واحد تيرا أفلام سينمائية، لكن وطأ الوحدة، يتحين الفرصة التي أنتقل فيها من فيلمًا لآخر، ويفترسني، وحدة لعينة!
وما أن تعرفت على القاهرة، وشوارعها، من خلال “لفّي” و “توهاني” فيها، كنت أسير باليومين المتواصلين، دون نوم، في الشوارع، دون كلل أو تعب، لا أبحث عن شيء، أريد أن أتوه فقط، لا أريد أن أصل إلى شيء، التيه فقط!
وفي أحد الأيام التعيسة، وصلت إلى مطعم، فكرت في أن أجرب متعة جديدة، قلت “متعة الأكل”، لكن ما أن دخلت المطعم، حتى وجدته فارغًا، كنت أريد أن أأتنس بالناس حولي، فخرجت على الفور، أسب وألعن اللحظة التي اتخذت فيها قراري.
وجدت المتعة أخيرًا
كانت تحب البطاطس، والجبنة المقلية، والفراخ الـ”مش عارف إيه”، وأنا لا أفهم هذه الأكلات، فكيف أستطيع أن أتذوقها، وأحس بطعمها في فمي، أية جبنة مقلية؟ وأية فراخ مش عارف إيه؟ كيف آكل هذا الطعام الذي لا أفهمه؟!
ندخل المطعم، نشتري هذه الأكلات التي لا أفهمها، وتأكلها بمتعة، استمتاع، وأشتري أنا أحيانًا، كشري، فراخ مشوية، أكل أعرفه على الأقل، وأفهمه، يشغل المعدة!
ورغم أنني لم أفهم، ما تأكله، أو أتذوقه، أو حتى أتخيل أنني أتذوقه، أشعر بامتعاض، عقلي “ابن الكلب” يرفض التغيير، يرفض أن “يدلع” المعدة، بهذا الأكل الذي يبدو شهيًا من اسمه، مختلفًا، يجعلها تضحك بجواري، تبتسم، تأكله على الأقل ويتغير “مودها”، وأنا لا حول و لا قوة!
وتمر الأيام، وتتبدل الأحوال، ولم تعد موجودة، وتأكل الوحدة أوصالي، يصير الوقت فقيرًا منها، من ضحكاتها، من ابتسامتها وهي تأكل ما تحب، من رائحة الجبنة المقلية، من رائحة الفراخ الـ”مش عارف إيه”، وصرت في مواجهة “الطعام” فقط!
إذن، لا “أكل”، لا “وكل”، لم يعد سوى “الطعام” بلا مذاق!
لكن كل شيء بالحيلة، يُحل، فكرت في أتغلب على الوحدة، أتغلب على عدم وجودها، بطعامها، آكل جنبة مقلية، الفراخ “المش عارف إيه”، البطاطس، تفاوضت مع عقلي، ليس لي مفر من الوحدة التي تنهشني، سوى أن تفهم الأكل الذي لم تكن تفهمه، واتفقنا.
ودخلت المطعم، وطلبت جبنة مقلية، وبطاطس، وتعثرت في الوصول إلى اسم “الفراخ”، تصببت عرقًا، الرجل يقف أمامي: فراخ إيه يافندم؟، صمت قليلًا، تراجعت بحجة أن هذا يكفي.
كنت قد اعتدت أن أضع لها قطعة من البطاطس في فمها، واعتدت أيضًا أنها لا تفارقني، تسير معي في كل لحظة، غيابها يؤكد حضورها،
أمسكت بقطعة البطاطس الأولى، مددت يدي، رفعتها، لتأكلها، لكن، للأسف، لم تعد موجودة!
تركت الطعام، وخرجت!
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال