همتك نعدل الكفة
184   مشاهدة  

لماذا لا تعجبني اللهجة الصعيدية في الدراما ؟!

اللهجة الصعيدية
  • - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد



لا أدري، ابتداء، ما حاجاتنا إلى كل هذا الكم من الدراما الصعيدية؟ وهل بلادنا لا تحوي بيئات أخرى ينبغي تسليط الضوء الشامل عليها من خلال الدراما؟.. في الرد على السؤال الأول ما يكشف أن المسألة برمتها ليست أكثر من تهافت الفراش على النار، انجذاب إلى سخونة الموضوعات في الصعيد عنها في غيره، مع غزارتها وسلاستها فيه، وحميمية لهجته أيضا، الموضوعات الاجتماعية خصوصا، وهي استقطابية تماما، أي تضمن نسب مشاهدات عالية أو فائقة، كما جرى، مثلا، مع مسلسل غوايش (1986)، ومسلسل ذئاب الجبل (1992) ومسلسل الضوء الشارد (1998)، ومسلسل الكبير أوي بأجزائه الوافرة (بداية الإنتاج 2010)..

المسألة، في خلاصتها، إنتاج فني ينشد الربح، وإن كان الأمر طبيعيا هكذا، ويفيد طائفة كبيرة من العاملين في الدولة، بقطاعاتها المختلفة، إلا أن واقع الصعيد يظل بائسا، فلا يتطور، بل تتراكم همومه كالعادة، ولو أصابه خير فبجهوده الذاتية، أو بطفرة مسؤول همام ندر ما يمر..

اللهجة الصعيدية
الدراما الصعيدية

الصعيد أكبر جغرافيا مصرية، من الفيوم شمالا إلى أسوان جنوبا، ومن ضمن المآسي المعرفية أن كثيرين من أبناء الوطن الشماليين يحسبونه الجنوب الوطني فحسب: سوهاج وقنا والأقصر وأسوان (هكذا على خط طول من الشمال إلى الجنوب)، والبحر الأحمر من الشرق والوادي الجديد من الغرب. أي يسقطون المحافظات الباقية من خريطة الصعيد (صعيد الوسط وصعيد الشمال): أسيوط، والمنيا، وبني سويف، والجيزة، والفيوم (أو في الأدنى يسقطون صعيد الشمال وحده) وعلى نفس المستوى من الخيبة لا يعرف كثيرون، في الشمال الوطني، أن اللهجة الصعيدية متعددة بتعدد البيئات واختلاف المواقع؛ فلهجة أهل قنا خلاف لهجة المنياوية بل خلاف لهجة سوهاج الأقرب إلى قنا من المنيا بكثير، وفي الحقيقة تتعدد اللهجة في الإقليم الواحد تبعا للتنوع البوصلي (زاوية الاتجاه) وتباين الأصول والفروع، مع تشابه مفهوم ينتظم بلاد الصعيد برمتها!

يوجد “مصححو لهجة” في الدراما المتصلة بالصعيد طبعا، ولا أشك في حذق

بعضهم وأمانته، لكنني أشك في تراخي أعداد منهم شكا كبيرا، وبالرغم من إنشائهم مراكز لتعليم اللهجة والتدريب عليها، فإنهم يبدون مشتغلين عابثين، ولا يبدون متفهمين لطبيعة ما هم بصدده مطلقا!

أين الألفاظ الصعيدية المحضة التي لا توجد إلا في البلاد الجنوبية (رأيت الأفضل بيانا أن أبدأ بأكثر الكلمات بعدا عن العاصمة المصرية) وإن وجدت في سواها من بلاد الصعيد فإنما توجد جريا على كلامها (هل سمع أحدكم لفظ “الكُشْنَة” في مسلسل وتعني “التَّقْلِيَّة” عند البحراويين وأهل العاصمة وغيرهم من قاطني شمالنا المصري؟).. اللفظ مطبخي خالص؛ ولذا كان الواجب أن يتم تداوله بكثافة في الدراما الصعيدية (كَشَّنَتْ الْمَرْأَةُ لِطَيِيخِهَا تَكْشِينًا، تُكَشِّنُ)؛ فالأطعمة والأشربة تحكمها عادات وتقاليد صارمة في الصعيد الجنوبي خصوصا، من ضمنها كلمات معينة، والموائد هناك عامرة باستمرار فلا تنفض إلا تقام مجددا، وحتى الفقراء يبدون آكلين وشاربين وشباعا، كأنهم الأغنياء بالضبط، في المناسبات بالذات.. لكن الكلمات لها بدائل بالضرورة، وخبراء اللهجة الراسخون، لا القشريون، يمكنهم الانتهال من المنابع الرئيسية للهجة الديار..

وهل سمع أحدكم لفظ “دَنْشَة” ومعناه “شوية”، ويقال “دِنيشِي” في صيغة ثانية؟ وأين التراكيب الخاصة كتركيب “شِي ادَّانِي؟” أي “ماذا أعطاني؟” والقصد النهائي “لم يعطني شيئا”.. قصد طالما يظهره التنغيم الصوتي مع مسح اليدين ببعضهما كناية عن خلوهما من الأشياء (“شِي” أي “أيش” وهو لفظ يوضح تأثر الصعيد باللهجات العربية، منحوت من “أي شيء”، كقول المعاجم). هكذا تقصد المرأة هناك بذلك التركيب القديم الباقي دون الأجيال الحالية، معبرة عن حسرتها من فراغ الساحة، ولا يقوله الرجال الصعايدة لرجحان هوانه عندهم. أين كذلك المثل الشعبي “قال يا رِجَّال اتْدَسُّوا يا حَرِيم اطْلَعُوا عِسُّوا”؟، وهو كلام معيب بحق البيوت التي ينام رجالها وتنشط نساؤها كأنهن الرجال! وأين لفظ صعيد الشمال “عَوْكَة” بمعنى “منعطف طريق”؟ وأين تراكيب ذلك الصعيد اللفظية؟ وأمثاله أيضا؟ وأين كلام كثير آخر، ترسي طرائقه العجيبة قواعد التعابير الصعيدية، إن في الشمال أو الجنوب، أمام المواقف والحادثات، وليتنا نتذكر فرعونية اللهجة الصعيدية إذ تذكرنا عروبتها!

هذا مرور بسيط بالسبيل المقصود، لم أشأ الإمعان فيه؛ لأن المقول للاستدلال على ضياع الثروة الصائبة، وليس الكلام المختار معنيا بدقة متناهية، وإلا سقت منه ألوفا، مع الشرح، محاولا الوفاء بالغاية، وهو ما يعجز عن ضمه كتاب ضخم فضلا عن مقال محدود، لكنه، أي الكلام المساق كشواهد هنا، قادر على الإفصاح عن اختفاء “الصعيد الصافي”، لو جاز التعبير، واستبدال صعيد غريب به.. صعيد ينكره أولاد الصعيد وعارفوه من أولي المعارف!

يحوم صانعو تلك المسلسلات، للأسف، حول مفردات قليلة وتراكيب معدودة ظانين أنهم هكذا استوفوا الصعيد لسانيا، وما استوفوا حصيات أراضيه، ويغيب عنهم، ضمن ما يغيب، بلاغة صعيدية مستخدمة بكثرة كفن تصغير الكلمة لإنجاز هدف بعيد بمنطوقها الجديد (رَاجِل/ رِويجِل).

الممثلون غالبا ما يسهمون في اضطراب المباني بأدائهم ثقيل الأفمام غريب الحركة شحيح الخيال مضنى الروح، وأما المؤلفون والمخرجون فغالبا ما يقدمون صعيدا قرويا لا مدنيا، ولا أظنهم يعرفون الفوارق بين الصعيدين أصلا، فالصعيد القروي هو الأكثر إثارة في أحداثه ولهجته، ولذا يختارونه، وليتهم يختارونه عن دراية عميقة، وأما بالنسبة للآخر المدني الذي لا يحبذونه؛ فإنه أقرب إلى العواصم والمدن الكبرى في جملة أحواله، مع كونه خلافها على الحقيقة، ومن هنا تتأتى صعوبته، وقد صبغته قراه ببعض صبغتها وصبغها هو ببعض صبغته.

إقرأ أيضا
الحلقة الأولى من الحشاشين

يبقى شيء درامي خارج دوائر الخسران بالطبع، شيء معقول، ولا يصح بالمرة أن نرجم جميع الأعمال، بفنانيها وفنييها، وفيهم معتبرون لا يمكن أن يمرروا خيطا، ولو رفيعا، من غير أن يمحصوه تمحيصا، ويقيسوا أوله وآخره، ويسمعوا صوت إيقاعه لو جذبه جاذب وتركه ليقرع خشبا أو نحاسا، وهؤلاء من نرجو انتشارهم في مواقع التصوير ونعول على زيادتهم فيها؛ فلا نكون في يأس قاتل كلما سمعما أن الأدوات تتجهز لتنفيذ عمل جديد ينتمي إلى صعيدنا سرمدي المظلومية!      

لا يصح البتة أن نقذف الجميع بالركاكة والاستسهال، هذه وصية ملزمة، ولكن الموضوع كبير وليس صغيرا، والدراما التلفزيونية منطلقة ولا تبالي، ولا يصح بالمثل عندما نتكلم نحن، بعلم، لأن كنبة الجلوس كنبتنا، وما غرضنا إلا الضبط والإتقان، أن يتهمنا متهمون جائرون بالتجني والإساءة، ويصفونا بتثبيط المجتهدين وإحباط الناجحين!

الكاتب

  • اللهجة الصعيدية عبد الرحيم طايع

    - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان