“من الظهور إلى المنع” تاريخ الرقص الشرقي في شهر رمضان
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تبدو عملية الربط بين الرقص الشرقي في شهر رمضان وأجواء شهر الصيام غير منطقية، وذلك لكون أن شهر الصيام له قدسيته؛ لكن تاريخيًا كانت صالات الرقص الشرقي تعتبر شهر رمضان موسمًا من مواسمها الفنية، وهو ما جعل المواجهة المجتمعية والدينية أمرًا حتميًا.
الرقص الشرقي في شهر رمضان .. معلومات تمهيدية
لسنا بصدد الحديث عن تاريخ الرقص الشرقي في مصر بشكل عام، وأفضل الدراسات التي تناولت الرقص الشرقي هو كتاب «الإمبريالية والهشك بشّك .. تاريخ الرقص الشرقي» للكاتبة الباحثة شذى يحيى؛ لكننا في هذا التحقيق نتطرق إلى ما يخص المشروبات الروحية وسهرات الرقص الشرقي في فترة شهر رمضان؛ ومن أجل هذا علينا استعراض معلومات تاريخية عامة.
- في ثلاثينيات القرن ال20م/ أربعينيات القرن ال14هـ
كان الرقص الشرقي وصلة فنية بين فصول المسرحيات التمثيلية للفرق المختلفة. - في أواخر أربعينيات القرن ال20م / ستينيات القرن ال14هـ
بدأ ظهور الكازينوهات. - في ستينيات القرن ال20م / سبعينيات القرن ال14هـ
حدث الانتشار الكبير للكازينوهات والذي تطور مع وجود الفنادق في مصر.
الرقص الشرقي في شهر رمضان ونواة المواجهة
كانت نواة نشأة صالات الرقص الشرقي مع قدوم الفرق الأجنبية وافتتاح المسارح الفنية في مصر في أواخر عصر الخديوي إسماعيل، ومع عصر الخديوي توفيق وسلفه عباس حلمي الثاني بدأت الدولة تتخذ سلسلة من الإجراءات إزاء الرقص الشرقي بدءًا من العام 1892م من خلال منع الزار وتجريمه في كل ربوع مناطق القُطْر المصري، ثم اتخذ مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار في 17 يونيو 1897م يقضي بتوقيع غرامة تصل إلى 300 قرش والسجن سنتين لمن يقوم بالزار والرقص الشرقي في شهر رمضان تنفيذًا لما قال به الأزهر.[1]
لم يتم تنفيذ قرارات منع الزار رغم المنع الحكومي، وليس هناك أدل من ذلك سوى أن الإعلام سَوَّق الزار على أنه أداة لمعالجة الأمراض النفسية والعصبية، مثل التحقيق الذي قامت به مجلة كل شيء والدنيا [2]، ورغم ذلك فقد مهدت تلك القرارات لصدور قرارات منع الرقص الشرقي في شهر رمضان.
كان حسين باشا رشدي رئيس الوزراء ووزير الداخلية هو أول من أصدر قرارًا بمنع الرقص في الشوارع العامة استعدادًا لشهر رمضان وذلك في أغسطس 1918م / ذو القعدة 1337هـ.
جريدة الأهرام حينما وثقت للمسألة ذكرت أن هناك إجراءات قاسية لتنفيذ ذلك القرار، إذ أصدرت تعليمات مشددة على عساكر البوليس وضباطهم بمنع الرقص في المقاهي والشوارع والأزقة والمخالفة تعني سجن المخالف.[3]
صالات الرقص الشرقي في شهر رمضان وحرب الشيخ أبو العيون
كانت مرحلة العشرينيات زالثلاثينيات هي الفترة الزمنية التي اشتهرت فيها راقصات الرقص الشرقي في شهر رمضان واللاتي اعتبرتهن موسمًا فنيًا كبيرًا؛ وكانت الرقصات وصلة بين الفصول المسرحية.
كانت أشهر تلك الصالات التي اتخذت من شهر رمضان موسمًا في الثلاثينيات هما صالة بديعة والأختين رتيبة وإنصاف رشدي والتي تنوعت فقراتها بين غناء ورقص، وبعروض مختلفة جنبًا إلى جنب مع حفلات الفرق المسرحية التمثيلية.
في أثناء تلك الفترة ظهر على السطح شخصية فارقة في تاريخ المجتمع المصري وهو الشيخ محمود أبو العيون شيخ علماء الإسكندرية، والذي كان بدايةً من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي عدوًّا لدودًا وخصمًا عتيدًا لكل ما يراه منافيًا للأخلاق حسب تصوره.
أشعل الشيخ محمود أبو العيون الفتيل عندما وصف الممثلين والممثلات عام 1934م بأنهم صورة طبق الأصل من إبليس ومجموعة من الموبقات والرذائل الإنسانية ويجب منعهم من العمل في شهر رمضان؛ ذلك الوصف الذي أغضب مجلة آخر ساعة فخصصت موضوعًا للرد عليه أخذ طابع السخرية منه.[4]
لم يتوقف موقف الشيخ محمود أبو العيون عند ذلك الحد بل طالب في عام 1940م من رئيس الوزراء حسن صبري بأن تشمل الأحكام العرفية حانات الخمور وملاعب الهوى وأندية القمار ومسابقات مراهنات الخيول وسباقها وصيد الحمام، فضلاً عن المسارح المختلفة حفاظًا وحمايةً لشهر رمضان المعظم.[5]
وأبدى الشيخ أبو العيون امتعاضه من استمرار عمل الكازينوهات رغم المطالبة منه للحكومة بوضع حدٍ لها.
على الرغم من ذلك الموقف العنيف الذي اتخذه الشيخ محمود أبو العيون لكنه ارتبط بصلات وثيقة مع الممثلين والممثلات، فقد حضر حفلة عيد ميلاد نجلة الموسيقار محمد عبدالوهاب عام 1947م وكانت الممثلة كاميليا تداعب الشيخ أبو العيون بالجاتوه[6]، وقد باءت جميع محاولات الشيخ أبو العيون بالفشل في زمنه، وذلك راجع إلى سبب بعيدًا عن الأخلاق وهو أن الرقص كان عادةً اجتماعيةً أكثر من كونه فقرة تؤدَّى في سهرة.
وللربط بين الرقص كعادة وكـ فقرة في سهرة، نجد وصفًا ضافيًا يؤكد تلك التلازمية من خلال الحوار الذي أجرته إحسان نجلة بمبة كشر والذي تكلمت عن علاقة الناس بالرقص الشرقي وأنه في الأساس مجرد أداة للتعبير عن الفرح في الأفراح، لكنها أكدت أن العالمة ستزول تدريجًا بفعل انتشار صالات الرقص.[7]
لم يكن انتشار صالات الرقص في شهر رمضان داخل القاهرة والإسكندرية دليلاً على فساد المجتمع المصري أخلاقيًا، إذ كانت الصالات في الأساس تخص الطبقة الوسطى فما فوقها، خاصةً مع ظهور الكازينوهات.
فضلاً عن أن الأنشطة الدينية لم تكن مختفية طوال فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن ال20م / ال14هـ وكانت تقوم من قِبَل نفس الطبقة المجتمعية.
الألبوم[8] (أدناه) سهرات الرقص الشرقي في رمضان بدءًا من 1360هـ/ سبتمبر 1940م إلى 1371هـ / مايو 1952م
مرحلة التوازن بين الحظر والسماح إلى المنع التام
بقيت حالة التوازن بين أجواء شهر رمضان الدينية وعمل الرقص الشرقي موجودة حتى قيام ثورة يوليو عام 1952م والتي غيرت كثيرًا من الشكل السائد قبلها.
كانت أول مواجهة للمنع بشكل رسمي بعد الثورة منسوبة إلى سليمان حافظ وزير الداخلية في أول حكومة يتولاها محمد نجيب كرئيس للوزراء، إذ منع المشروبات الروحية في الأحياء الوطنية، فيما سمح بالسهر في الأماكن المتعلقة بالكازينوهات ونحو ذلك عدا الأماكن غير المصرح لها ببيع وتناول المشروبات الروحية وذلك في مايو 1953م / رمضان 1372هـ.[9]
لم يشمل المنع فقرات الكازينوهات في رمضان 1372هـ / مايو 1953م، تشير إلى أن الرقصات كانت جزءًا من العروض المسرحية أو بالأحرى كانت وصلة بين كل فصل مسرحي.
الألبوم[10] (أدناه) | سهرات الرقص الشرقي في رمضان
بدءًا من عام 1384هـ / يناير 1965م
إلى عام 1404هـ / يونيو 1984م
ونلاحظ في الألبوم أعلاه أن هناك مسارح للفرق التمثيلية كان الرقص بها وصلة بين الفصول؛ بينما كانت هناك فنادق تخصص سهرات لشهر رمضان بالرقص الشرقي إلى جانب المطاعم.
لكن بقيت أيضًا عناصر التوازن موجودة، إذ كان إلى جانب سهرات الفنادق والكازينوهات للرقص الشرقي، كانت المسارح تقدم أعمالاً دينية وأدبية تمثيلية؛ وبعضها كان بها الرقص الشعبي الذي كانت تقوم به فرقة رضا.[11]
المنع التام للراقصات حدث في رمضان عام 1405هـ / مايو 1985م؛ لكن هذه المرة كان القرار بيد غرفة السياحة التي أوصلت بإغلاق ملاهي شارع الهرم وكافة ملاهي محافظتي القاهرة والإسكندرية؛ مع السماح لبعضها مع النوادي الليلية بالفنادق على العمل دون أداء الرقص الشرقي حتى لو ارتدت الراقصة جلباب بلدي وليس بدلة رقص؛ وبناءًا على ذلك حصلت كافة الراقصات المصريات على أجازة إجبارية تشمل أيضًا عملهن في الأفراح.[12]
راقصات جيل الثمانينيات استقبلن ذلك القرار عند ظهوره الأول بترحيب شديد، فنجوى فؤاد كانت تستعد لقراءة سيناريو مسلسل الباقي من الزمن ساعة، فيما أعلنت سهير زكي أنها ستتجه مع زوجها مدير التصوير محمد عمارة إلى أداءة العمرة؛ بينما أعلنت عزة شريف أنها ستكون ست بيت وستقوم بالعبادة وهو ما اتفقت معها الراقصة نادية فؤاد وشوشو أمين، وفي الجيل الحالي لم يختلف رد الفعل عن راقصات جيل الثمانينيات فلم تبدي الراقصات تململاً من توقف عملهن.[13]
[1] محرر، الأهرام، 17 يونيو 1897م
[2] محرر، الأستاذ الدكتور يوسف برادة الأخصائي في الأمراض العصبية يقول: قد يشفي الزار بعض الأمراض .. ولكن !!، مجلة كل شيء والدنيا، عدد 426، يوم 3 يناير 1934م / 17 رمضان 1352هـ، ص ص16-17.
[3] محرر، العادات والأخلاق السيئة، جريدة الأهرام، عدد 16 أغسطس 1918م، ص1.
[4] محرر، كواكب المسرح في شهر رمضان، مجلة آخر ساعة، عدد 23، يوم 16 ديسمبر 1934م، ص ص31 –32.
[5] محرر، الشيخ أبو العيون يرجو من رئيس الوزراء حماية شهر رمضان، جريدة المقطم، عدد 15960، يوم 3 أكتوبر 1940م / 1 رمضان 1359هـ، ص 3، وص5.
[6] محرر، أم كلثوم تغني في بيت عبدالوهاب، جريدة أخبار اليوم، عدد 15 مارس 1947م، ص7.
[7] محرر، تقاليد تزول .. العوالم في الأفراح والليالي الملاح، مجلة كل شيء والدنيا، عدد 29 يناير 1930م، ص ص16 –17.
[8] الألبوم يضم أقصوصات صحفية ليوم 1 رمضان من كل عام بدءًا من سنة 1359هـ / 1940م، حتى سنة 1371هـ / 1952م؛ وهي من أرشيف صحف المقطم والمصري والبلاغ.
[9] محرر، منع المشروبات الروحية في الأحياء الوطنية، جريدة المصري، عدد 5558، يوم 18 مايو 1953م / 5 رمضان 1372هـ، ص4.
[10] الألبوم يضم أقصوصات صحفية ليوم 8 رمضان من كل عام بدءًا من سنة 1382هـ / 1965م، حتى سنة 1408هـ / 1984م؛ وهي من أرشيف صحف الأهرام والأخبار وأخبار اليوم والجمهورية.
[11] آمال بكير، رمضان يفرض الملامح الدينية على العروض المسرحية، جريدة الأهرام، عدد 29938، يوم 28 نوفمبر 1968م / 8 رمضان 1388هـ، ص10.
[12] أحمد ماهر، أجازة إجبارية للراقصات في رمضان، جريدة الجمهورية، عدد 11468، يوم 23 مايو 1985م / 4 رمضان 1405هـ، ص11.
[13] محمد المصري، دردشة مع راقصات الملاهي الليلية العاطلات عن العمل طوال شهر رمضان، موقع رصيف 22، نُشِر يوم 23 يونيو 2017م
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال