نيتشه في الميزان ( الجزء الثاني )
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
في المقال السابق تحدثنا عن نيتشه واليوم نكمل الحديث فيما بدأناه.
كان نيتشه فيلسوفًا اصلاحيًا بكل ما تحمله الكلمة من معان، فقد كان يؤمن بضرورة التغيير في بنية التفكير وسلوك الإنسان، ويكفيك أن تعرف قصة حصان تورينو حتى تغير نظرتك له، كان نيتشه يسير في طريقه وإذ به يرى رجلًا يضرب حصانه ويجلده بمنتهى القسوة، يقفز نيتشه من مكانه ويهرع للحصان ويعانقه من رقبته، ثم يقول وهو يبكي ويربت عليه: أنا افهمك.. أنا افهمك، وكانت تلك هي آخر كلمات نيتشه، وبقي صامتًا منذ ذلك الحين حتى مات بعدها بسنوات، تخيل أن يثور هذا الفيلسوف اللأخلاقي كما يدعي البعض ويصاب بإنهيار عصبي من أجل حصان.
والحقيقة أن أسوأ تهمة قد الصقت به هي أن التنكيل باليهود كان وليدًا لما كتبه، وأن الحركات الديكتاتورية مثل النازية والفاشية قد بُنيت على فلسفته، لأن تلك الحركات قد بٌنيت أساسًا على فلسفة التميز والعنصرية وسيطرة الاقليات، ولست حمقاء بالطبع لأدافع عن شخص أباح إعدام وقتل ذوي العاهات حتى لو كان بالقتل الرحيم، ونيتشه نفسه قضي معظم حياته ضعيفًا ومريضًا، ولكن هتلر الذي كان يبكي عند تمثال نيتشه ويعتبره كالإله ويقدس كتبه وأفكاره، هو من تبنى فلسفة نيتشه بتطرف وبالغ في تطبيقها، فكما يقول جيل دولوز (فيلسوف فرنسي) في كتابه نيتشه والفلسفة : “إن هتلر هو عبد نيتشه الذي نبذه في أفكاره، حيت سعى إلى السيطرة والتدمير، إنه العبد الذي يعتقد أنه تحرر، لكنه في الواقع لم يقترب من الحرية.. إن الحرية التي دعا إليها نيتشه تكمن في التحرر من الغرائز السيئة”، وكما كتب صحفي بريطاني يدعي شارلز سكوت : أعمال نيتشه أثناء الحرب العالمية الثانية لم تكن تلقى روجًا في أوروبا وأمريكا، وفقد شعبية كبيرة نتيجة أن هتلر وأتباعه ترجموا كتاباته بصورة خاطئة وقرأوا أعماله بسطحية وبدون تمعن، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية عادت أعماله للرواج والقبول، بعدما عرف الناس إستغلال أعماله من الرايخ الثالث والتحريف الواضح والفاضح لفكره وأعماله وكتاباته. Scott Charles E. Nietzsche in A Companion to Continental Philosophy
كان محور فكر نيتشه ما اشتهر بفلسفة “القوة والإرادة”، والتي أكد فيها على أن الحياة لابد إن تدفع بالإنسان في طريق الرقي، وهو ما أسماه تجاوز الذات، بمعني أن تكون في غدك أحسن من يومك، وأن يكون أبنائك ونسلك متقدمين عليك في كل شئ وجميع الصفات، وأن جيلهم يجب ان يتفوق على جيلك، وهذا ملُخص أفكاره وما بشر به وأطلق عليه الإنسان السوبرمان، والذي يتمتع بالإرادة والتفكير والقوة لتغيير واقعه وصنع حياته، وحين رأى أن عصره بلا اأخلاق أو دين، بشر بتلك الفكرة، فكرة الانسان الأعلى أو الأرقى أو الإنسان السوبرمان، االذي اعتبره أرقى في التفكير والأخلاق وأشجع من الإنسان الحالي، وقال : إن من الواجب على الحضارات أن تخلق هذا الإنسان المتواجد في مخيلته والذي كان ذكي وقوي وشجاع وخلاق وحر.
أما عن مقولته المبتورة “مات الإله” والتي تجرح الشعور الرومانسي الديني للبعض، فأود ان اخبرك بان نيتشه كتب أيضًا في كتابه هكذا تحدث زرادشت : “من منكم كافر أكثر مني فسأكون مسرورًا بالتعلم منه”.
وللإنصاف فإن العبارة المبتورة من سياقها كانت في الأساس: “لقد مات الاله وسيظل ميتا ونحن الذين قتلناه”، أن موت الإله لا يعني اتجاهًا الحاديًا صريحًا عند نيتشه، بقدر ما كان توصيف لواقع عاشه وكرهه، وكان يقصد به وفاة الفكر اللاهوتي، وهو ما قاده لوضع نقد عميق للأخلاق المسيحية وما كرست إليه كي لا تلحق بالإنسانية المتخلفة، يقول نيتشه : “إذا أردت أسمى ما في الوجود عِش في خطر”، فقد كان يرى أن الخنوع والإستكانة والتذلل والخضوع والضعف والتواري هي أخلاق العبيد، ولكنك حين تبادر وتتجرأ وتتشجع فتلك هي أخلاق السادة، أخلاق الإنسان الاعلى ، كن مثل سقراط وجالليليو وكوبرنيكوس، تحدث وواجه وتمرد وثر واصطدم وإسبح ضد التيار.
أبدًا لم يعتقد نيتشه يوما بأن الله هو نفسه الذي مات، وإنما كان يقصد بأن الله أو الرب هو الذي مات في قلوب الناس، ولم يبق سوي الكلام اوالدين الكلامي بين الناس، أما عن الإعتقاد الحقيقي فقد مات في صدور الناس جميعا، لم يكن نيتشه كافرًا بقيمة الله ولا بقيمة الدين، إنما كان شاهدًا على انحطاط الغرب لانه لم يعد يؤمن بالأخلاق…بالآخرة …وبالله، فريدريك نيتشه لم يكن ملحدًا، إنما كان كارهًا لرجال الدين، وهذا ما قد كتب عنه كولن ولسون في كتابه (اللامنتمي) فقال: “نيتشه لم يكن ملحدًا بل كان مؤمنًا، ولكن ليس بالمسيحية التي رآها من رجال الدين.”
وقد وصفه محمد إقبال بأنه صاحب قلب مؤمن ولسان كافر، وهو ما اعتبره أحد الألمان الدارسين لفلسفة نيتشه يعبر عن تجربته التي لم يفهمها الكثيرون ممن وصفوه باللأخلاقية والكفر والإلحاد والزندقة والهرطقة، تلك الإتهامات التي تسبقه كسنام على متن افكاره، وكأن الوجود الذي عراه اراد الإنتقام من عمق فكره.
وكلما عبر وصف محمد اقبال بين ثنيات عقلي، أفكر أنني من الممكن أن أكون مؤمنة ولو هرطقت، وكافرة القلب وإن صليت !
أتذكر أولئك الذين يعلنون الشهادة ويذهبون لدور العبادة والمساجد ويسجدون آلاف من السجدات، ولا تخرج كلمة من بين لحم قلوبهم ودمه.
المهم أن نيتشه قد قال : “مات الله”…ونحن لم نقلها…!!
……………
….
..
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال