“وثائق مرحلة منسية” مجالس القراءة الصوفية بالمسجد النبوي .. أسستها مصر قبل سيطرة الوهابية

تهتم مجالس القراءة الصوفية في عمومها بالعلم وتزكية النفس والذكر، ويبدو غريبًا أنه كان للصوفية مجالس داخل بلاد الحرمين قبل سيطرة الوهابية فترة تاريخية لم تلقى اهتمامًا من المؤرخين. 

ما هي عملة الـ أبو شوشة لميزانية مجالس القراءة الصوفية

قامت مصر في بلاد الحرمين بعدد من الأعمال الخيرية بمخصصات مالية، وكان من ضمن النثريات الخيرية ميزانية مجالس القراءة الصوفية داخل المسجد النبوي وكانت بدايتها عام 1852 م برعاية من الدولة المصرية، وبميزانية تقوم بالجنيه المصري وميزانية أخرى تقوم بالدولار النمساوي الذي كان يسميه العرب الريال الفرنسي الذي كان يسميه عرب شبه الجزيرة باسم أبي شوشة.

سبب استخدام الريال الفرنسي (الدولار النمساوي) أنه لم تكن هناك سيولة المالية متوفرة بلاد شبه الجزيرة العربية خلال القرنين الـ 17 والـ 18 وذلك لأن نشاط المنطقة كان يقوم على الزراعة والرعي وبالتالي تتم عمليات البيوع بالمقايضة التي أدت إلى قلة نظام الكاش.

نتيجةً لعدم وجود سيولة نقدية انتشر الريال الفرنسي وهو أصلاً دولار نمساوي أصدرته الإمبراطورة ماري تريزا وحمل صورتها بعد التفاهمات بين بلدها وفرنسا ولقيت تلك العملة رواجًا كبيرًا في الأسواق الأوروبية والعربية، وسبب تسميتها بـ أبي شوشة هو ضفائر الإمبراطورية النمساوية المجدلة على رأسها (والشوشة عامية لها أصل عربي وأصلها الذُّؤَابَةُ التي تعني الشعر المضفور).

ظلت عملة أبو شوشة رائجة في شبه الجزيرة العربية إلى جانب الروبية حتى تم منع تداولها ونُشِر خبر المنع في العدد 720 من جريدة أم القرى الصادر يوم الجمعة 29 رجب 1357هـ الموافق 23  سبتمبر 1938م.

وثائق مجالس القراءة الصوفية في المسجد النبوي

كانت مجالس القراءة الصوفية بدأت لأول مرة سنة 1852 م وتم تخصيصها لقراءة القرآن الكريم وصحيح البخاري وكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وكتاب نور الفلاح بالصلاة على خير الملاح، وكتاب دلائل الخيرات وحزب النصر وحزب البحر، وكانت ذلك المبلغ يتم توزيعه على حسب عدد الأفراد ونوع كل مجلس قراءة.

تشير وثيقة وقفية مجالس القراءة التي حددتها مصر في شوال سنة 1268 هجري الموافق لشهر يوليو سنة 1852 م إلى تخصيص مبلغ 612 ريال فرنسي يُصرْف كمرتب سنوي لـ 15 شخص (كل شخص له 40 ريال سنويًا) ولهم 4 مهمات بالتناوب وهي ختم القرآن يوميًا، تلاوة كتاب دلائل الخيرات 3 مرات يوميًا، وقراءة سورة الفتح 7 مرات يوميًا وتلاوة سورة الكهف كل جمعة.

وخصصت مصر مبلغ 48 ريال فرنسي سنويًا يُصْرَف كمرتب سنوي لشخص يقرأ سورة يس كل يوم 41 مرة، وتخصيص 216 ريال فرنسي سنويًا يُصْرَف كمرتب سنوي لشخصين (كل واحد 108 ريال) يقومان بقراءة صحيح البخاري مرة كل شهر، وتخصيص مرتب 216 ريال فرنسي يُصْرَف لـ 3 أشخاص (كل شخص بـ 72 ريال) يقرأون كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى 3 مرات كل يوم، وتخصيص مرتب سنوي بـ 72 ريال فرنسي يتم صرفه لشخص واحد يقوم بقراءة حزب النصر وحزب البحر مرة كل يوم عند الروضة الشريفة، وتم تخصيص 336 ريال فرنسي لشخص يقوم بقراءة 10 أجزاء صباح كل يوم ويختم القرآن في أسبوع على روح خازن عباس حلمي الأول؛ إلى جانب ذلك تم تخصيص مبلغ 250 ريال فرنسي مصاريف دورق يُسْقَى بهم زوار المسجد النبوي لمدة 6 أشهر في الصيف مع صرف 120 ريال فرنسي للساقي.

أما مجالس القراءة التي كانت بالجنيه المصري فكانت متنوعة هي الأخرى، إذ خصص عباس حلمي الأولي مبلغ 232 جنيه و800 مليم لختمة قرآنية في المسجد النبوي على روح إبراهيم إلهامي باشا نجل والي مصر عباس الأول.

وتم تخصيص مبلغ 24 جنيه لساعات تلاوة قصة المولد النبوي في مقام حمزة بن عبدالمطلب ليلة المولد، ويتم تقسيم الـ 24 جنيه على جزئين، جزء من المبلغ يذهب كمرتب لمن يقرأ قصة المولد، والجزء الآخر يتم  به شراء أرز وبلح وشربات ويتم توزيعها على الفقراء، وذلك في وقفية عباس حلمي الأول التي أمر وزارة المالية بأن تخصصها؛ كما تم تخصيص مبلغ 232 جنيه و 800 مليم كمرتبات لقراء القرآن الكريم وصحيح البخاري ودلائل الخيرات وكتاب الشفاء على روح محمد صديق بك خادم عباس حلمي الأول.

الصدفة القدرية الغربية بين صاحب فكرة مجالس القراءة الصوفية والوهابية

تم استئصال أي وجود مؤثر للصوفية في بلاد الحرمين فيما بعد على يد السلفية الوهابية بعد ظهور الدولة السعودية الثالثة، لكن من الصدف القدرية الغريبة أن عباس حلمي الأول صاحب فكرة مجالس القراءة الصوفية هو نجل أحمد طوسون أول قائد للتجريدة المصرية على الوهابية (1811 ـ 1818).

لا تتوقف الصدفة عند ذلك الحد، بل إن عباس حلمي الأول تزوج الأميرة حواء نجلة أحد كبار شيوخ نجد وأشهر الموالين للحركة الوهابية التي أطاح بها جده محمد علي باشا وعمه إبراهيم باشا.

صدفة قدرية أخرى وهي أن تلك الأميرة النجدية التي تنتمي لعائلة وهابية حاربها إبراهيم باشا عم زوجها، كان لها ميول صوفية وبل لها بصمة صوفية داخل مصر، ولم يهتم المؤرخين كثيرًا بسيرة المرأة الوهابية التي تزوجها عباس حلمي الأول، باستثناء ذكر اسمها مجرًّدًا من اسم أبيها ، واسمها حواء.

جريدة الصباح في عدد 20 يناير سنة 1938 م، أفردت صفحةً كاملةً عنها قالت فيه أن عباس الأول كان على خلاف مع عمه إبراهيم باشا وخاف منه فرجع إلى الحجاز وظل بها 8 أشهر، وخلال مدته فيها تزوجة بكريمة سلطان نجد والتي كانت على جانب كبير من الجمال، فلما وصله نبأ وفاة عمه إبراهيم باشا وصيرورة العرش المصري له، فرح أعراب نجد فرحًا عظيمًا وأقاموا له زينات باهرة، وحرص الوهابيون على أن يحوطوا هذه الأفراح بكل مظاهر الأبهة والعظمة، ليزيل عباس الأول الأثر الذي تركه عمه إبراهيم باشا في حروبه المشهورة داخل بلاد نجد.

عاد عباس حلمي الأول إلى وطنه بصحبة زوجته النجدية ومعه 100 من الأتباع والجواري فتم استقبالهم في السويس ونُحِرَت الذبائح ووُزِعَت الصدقات ومنح عرب الهنادي بالشرقية هبات عظيمة، الأمر الذي جعل عباس يقرر أن يتربى ابنه الأمير إلهامي عندهم، لأن عرب الهنادي يشبه أهل والدته النجدية.

إقرأ أيضا

“حول حديث اتركوا الحبشة ما تركوكم” نقد الاستدلال الجاهل الموجود في السوشيال ميديا

كان عباس حلمي الأول عاشقًا لزوجته، ولأن صحتها لا تطيب إلا في جوا البادية، شيد لها قصرًا وسط صحراء طريق السويس- القاهرة سماه الدار البيضاء.

لا زالت أطلال القصر موجودة وتم استخدامه سينمائيًا فقد صار لوكشين لتصوير مشهد لقاء إبراهيم الأبيض مع عمران بصحبة عشري والغنام الذي قُتِل في آخر المشهد أعلى أطلال القصر.

تركت زوجة عباس حلمي الأول بصمةً صوفية داخل مصر منها أنها عَمَّرَت مسجد السيدة سكينة في شارع الأشراف وأقامت على ضريحها مقصورة من النحاس الأحمر وأوقفت عليها خيرات كثيرة.

هذه التفاصيل التي أشارت لها جريدة الصباح وإن كانت غريبةً بعض الشيء، لكن هناك ما يعززها في كتب التاريخ المصري الحديث وحتى كتب التاريخ السعودي، فالمؤرخ عبدالرحمن الرافعي في ص 16 من الجزء الأول لـ كتاب عصر إسماعيل أشار إلى أن عباس الأول كان متغيبًا في الحجاز لما مات إبراهيم باشا فتم استدعاءه إلى مصر ليخلفه في الحكم.

أما خالد صلاح سنوسي أبو الجدائل وهو أحد مؤرخي بلدة جدة فقال تصريحًا لموقع سبق يعزز ما ذكرته جريدة الصباح، إذ قال أن عباس باشا كان مشهورًا لدى شعب بالحجاز باسم الجداوي لأنه وُلِد في مدينة جدة عام 1813 للميلاد الموافق 1228 للهجرة، في نفس الفترة التي كان فيها والده أحمد طوسون باشا واليًا على مدينة جدة؛ وكل هذه الأطروحات تؤكد أن عباس الأول تزوج وهابية لها ميول صيوفة.