حرر أمريكا من الاستعمار.. كيف أصبح “الشاي” كوب الإنسانية؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
حجرة الشاي تعد بمثابة واحة في قلب الوجود الكئيب، يجيء إليها المسافرون المتعبون لكي يستريحوا من النبع العمومي لتقدير الفن، فلا صوت ولا شوشرة تعكر مزاج الغرفة، ولا إيماءة تتطفل على التناغم، ولا كلمة تكسر وحدة الأشياء، كل الحركات تقام ببساطة، كانت هذه طقوس الشاي في اليابان، وفلسفة تناوله.
يقال إن أولى الروايات المتعلقة بالشاي في الكتابات الأوربية تنسب إلى أحد الرحالة العرب، وكان مصدرًا للدخل الأساسي في إقيلم “كانتون” بالصين الرسوم الجمركية المفروضة على الملح والشاي، وسجل “ماركو بولو” حادثة إعفاء وزير مالية صيني من مهمته عام 1285 بسبب الزيادة التعسفية في ضرائب الشاي.
سحر الشاي
وفي نهاية القرن السادس عشر جاء الهولنديون بالأخبار التي تفيد بأن ثمة شرابًا طيب المذاق من أوراق شجرة ما، وحملت سفن تابعة للشركة الهولندية لشرق الهند أولى شحنات الشاي إلى أوربا، وأصبح الشاي معروفًا في فرنسا عام 1636، ووصل روسيا عام 1683، أما إنجلترا فقد رحبت به في عام 1650 ووصفته بالشراب الصيني الممتاز الذي يصدق عليه جميع الأطباء.
“الكوب الأول يرطب شفتي وحلقي، والكوب الثاني يكسر وحدتي، والثالي يجوس داخلي المجدب، فلا يجد هناك نحو خمسة آلاف مجلد من النقوش الغريبة، الكوب الرابع يتسبب بتعرق بسيط تخرج معه من مسامي جميع مساوىء العيش. وحين أصل إلى الكوب الخامس أكون قد تطهرت، والكوب السادس ينادي جنات الخلد. أما الكوب السابع..آه، لا أستطيع تناول المزيد، لا أحس سوى بهبوب النسيم العليل في أكمامي. أين أنت يا هورايسان؟ دعوني أمتطي الخيل في هذا النسيم العذب وأرتحل”. يقول الشاعر الصيني لو تونغ.
أما أوكاكورا كاكوزو، مؤلف كتاب “الشاي”، يقول، “ينطوي الشاي على سحر خفي يجعله لا يقاوم ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية، فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلفة في نبتة الكاكاو”.
أدخلت الصين الشاي في القرن الثامن الميلادي إلى مجال العشر، بوصفه واحدًا من المتع الإنسانية العالية، أما اليانان فقد وضعت الشاي في مصاف المذاهب الجمالية الراقية في القرن الخامس عشر، لينشأ بعد ذلك مذهب “الشايّية”، وخرجت طائفة الشاي من متن تقدير الجمال في خضم الحقائق الدنيئة للحياة اليومية، وهي طائفة تحتفي بالنقاء والتناغم، والكرم المتبادل وبرومانسية النظام الاجتماعي.
العزلة التي عاشتها اليابان بعيدًا عن أنحاء العالم، بوصفها تأملًا للذات وسبر أغوارها، لعبت دورًا في تطور مذهب “الشايّيه”، فالمنازل والعادات والأزياء والمطابخ، وفنون الخزف والشراب والتزيين والرسم، وحتى الأدب أصبح عرضة للتأثر بعالم الشاي.
ويصف اليابانيين في تعابيرهم الدارجة الإنسان بأنه “خالي من الشاي” عندما يكون منيعًا إزاء الميول الهزلية والجادة، التي يشهدها مسرح الدراما الشخصية، أما الشخص الجامح في الشغف بالجمال، متناسيًا مآسي الحياة، يعيش حياة مستهترة، يصفه اليابانيون بأنه “مفعم بالشاي”.
ولم يكن المشروب الساخن مجرد تسلية في الشعر، بل أصبح أحمد مناهج معرفة الذات، فالشاعر الصيني وانغ وان تشي، يصف الشاي بأنه يغمر روحه كفتنة مباشرة، وأن مذاقه المر يذكره بمذاق حكمة رفيعة.
كما كتب الشاعر الصيني سو تانغ بو، عن قوة النقاء الطاهر الكامنة في المشروب الشهير التي تهزم الفساد كرجل فاضل حقًا، وكان من بين البوذيين، أتباع مذهب “الزن” الجنوبيين، يقتبسون الكثير من تعاليم التاو الذي صاغوا الطقوس التفصيلية لشربه، فكان الرهبان يجتمعون أمام رسم يجسد شخصية الراهب البوذي بودي دارما، ويشربون الشاي من كوب واحد في ألفة عميقة بينهم، وتطور الطقس وساد في اليابان منذ القرن الخامس عشر.
الشاي في مواجهة الهرطقة والاستعمار
واجه الشاي معارضة من هنري سافيل الذي شجب وندد بشربه ووصفه بأنه عادة قذرة، وقال الرجال الإنجليزي جوناس هانواي في مقاله له عن الشاي، إن الرجال يفقدون لياقتهم ومكانتهم، وتفقد النساء جمالهن بسبب شربهم الشاي.
لكنه سرعان ما تحول لرمز يدل على الضيافة الرفيعة، وهدية تهدى إلى الأميرات والنبلاء، وتحولت بيوت القهوة في لندن، في النصف الأول من القرن الثامن عشر إلى بيوت شاي، وأصبح الشاي ملاذ مفكرين من أمثال أديسون وستيل، اللذين كانا يستمتعان بشرب طبق من الشاي.
وأصبح الشاي ضرورة حياتية، ومنتج تجاري خاضع للضرائب، واستسلمت أمريكا المستعمرة للاضطهاد حتى نفد الصبر الإنساني قبل فرض الضرائب الكبيرة على الشاي، ويعود تاريخ الاستقلال الأمريكي إلى رمي حاويات الشاي في ميناء بوسطن.
ففي أواخر القرن الثامن عشر جاءت شرارة الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني، وعدد القوانين الجائرة التي فرضتها الحكومة الاستعمارية، ومنها زيادة الرسوم الجمركية على الشاي، فتنكر عدد من الثوار الأمريكيين بأزياء الهنود الحمر وصعدوا إلى السفن التجارية وألقوا ما يقرب من 243 حاوية شاي في البحر.
حجرة الشاي في اليابان
تعتبر حجرة الشاي بمثابة دار سلام، كانت الحجرة في اليابان من إبداع سينو سويوكي، ويعد أعظم معلمي المشروب الساخن الشهير، الذي وضع في القرن السادس عشر، بوضع أسس طقوس شربه.
أما المعلم الياباني جووو في القرن الخامس عشر، وضع نسب حجرة الشاي، وتكونت من جزء من حجرة الرسم الاعتيادية وقسمت بستائر بهدف اجتماع الشاي، ويطلق على الحجرة “السياج”.
تبنى حجرة الشاي داخل البيوت، بشكل غير مستقل، وتصمم لاستضافة ما لا يتجاوز خمسة أشخاص، ومن حجرة انتظار تُغسل وتوضب عدة المشروب الساخن قبل إدخالها، ومن شرفة ينتظر فيها الضيوف حتى يستدعوا للدخول إلى الحجرة .
ولا تعد الحجرة باهرة من حيث المنظر، فهي أصغر من البيوت اليابانية، بينما القصد من المواد المستعملة في تشييدها منح الانطباع بالتقشف المهذب.
ويعتبر النجارين الذين يعينهم أساتذة الشاي من الطبقات الماهرة والمميزة بين الفنانين.
يدخل الضيف ببطء من حجرة الشاي، التي تعتبر بمثابة الحرم، فيقترب ببطء، وإذا كان مقاتلي الساموراي يترك سيفه على المنصب، ثم يحني قامته ويدخل إلى الغرفة زحفًا عبر باب صغير لا يزيد ارتفاعه عن ثلاثة أقدام، وهذه الطريقة في الدخول كانت مفروضة على الجميع من الطبقات العليا والدنيا، وكان الهدف منها أن تطبع التواضع في الذهن.
يدخل الضيوف واحدًا تلو الواحد، ويتخذوا أماكنهم في الجلوس، أولا ينحنون إجلالًا أمام الرسم أو الورود المنسقة، ولا يدخل المضيف إلى الحجرة قبل أن يتخذ الضيوف أماكنهم ويعم الهدوء، ولا يخرق الهدوء سوى إيقاع المياة التي تغلي في الغلاية الحديدية.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
حلوة جدا
تسلم ايدك
انا من مدمني الشاي والمعلومات الللي هنا حلوة اوي