همتك نعدل الكفة
1٬646   مشاهدة  

الشيخ سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (3): الحظ يبتسم لفنان الشعب

سيد درويش


انتهينا في الحلقة الثانية حيث إحياء الشيخ سيد درويش لأول لياليه بمنزل أحد تجار الأحذية، بما اعتبر صعودا منه لأول درج شهرته كمقريء، وإذا ما نظرنا إلى ما حققه سيد درويش إلى الآن سنجد أنه (أي ما وصل إليه) معتمد كل الاعتماد على موهبته الفطرية، لم يكن سيد درويش قد تلقى علوم الغناء أو الموسيقى بعد، فقط يعتمد على حسه الفطري في بناء النغم وتنفيذ الألحان.

اقرأ أيضًا 
سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (1) أجواء اكتشاف الموهبة

إلا أن سيد درويش لم يكن ليتوقف عند حد الموهبة الفطرية دون أن ينميها بعلم يثقلها ويؤهله لخطواته التالية، فبدافع من رغبته في طلب العلم والتعرف على أصول تلك الصنعة التي ساقه القدر إليها، بدأ الشيخ سيد درويش في تعلم أصول المقامات الموسيقية الشرقية على أيدي المحترفين من شيوخ الفن آنذاك، وكان سيد في ذلك حريصا كل الحرص، فلم تظهر له فرصة استزادة من هذه العلوم إلا وانتهزها ولم يكن ليضيع وقتا له فيه مصلحة على المستوى الفني والموسيقي، كان شغوفا بالتعلم، يشرب علوم النغم والفن بنهم وحرص شديدين، لذلك، التحق سيد درويش بالكلية الحرة ليدرس العلوم الموسيقية دراسة يمكن أن نصفها بالأكاديمية.

وكعادة سيد درويش في مجال التعلم، اجتهد في دراسته وتحصيله للعلوم الموسيقية حتى تفوق على طلبة الكلية الحرة وهو ليس أمرا جديدا على سيد، فقد سبق وتفوق على أصدقائه بالمدرسة وبالمعهد الديني.

إلا أن صاحب الكلية، وكان إنجليزيا، لم يكن ليهدأ له بال وسيد هو المتفوق على أبناء جنسه، وعز عليه أن ينبغ في مدرسته طالب مصري، ولا عجب من ذلك فتلك هي الغريزة الاستعمارية القميئة التي ترفض أي نهضة للبلد المحتل، فبدأ صاحب الكلية الحرة هذا في مضايقة سيد، فلم يزل يحبطه ويقلل من عزائمه حتى اضطره إلى ترك الكلية، إلا أن سيد كان بالفعل قد حصّل مبتغاه من العلوم الموسيقية، والتي فتحت له آفاقا جديدة فيما بعد للاستزادة من علم الغناء والموسيقى بمجهوده الشخصي.

المسئولية تطارد سيد درويش

الشيخ سيد درويش
الشيخ سيد درويش

ذكرنا فيما سبق أنه بعد وفاة الحاج درويش البحر، انتقلت المسئولية لسيد الابن الوحيد له، مما اضطره لفتح محلا للعطارة، إلا أن الدخل الذي كان يدره هذا المحل الصغير لم يكن ليكفي احتياجات تلك الأسرة الفقيرة، فازدادت إلتزامات سيد تجاه أسرته وبدأت متطلبات الحياة تطارد سيد ليلا ونهارا، فاضطر لأن يعمل ليلا كصييت يردد ألحان الشيخ سلامة حجازي.

اقرأ أيضًا 
الشيخ سلامة حجازي زعيم المسرح العربي (4) أيامه الأخيرة وتفاصيل جنازته

بدأ سيد في زيادة محصوله من القصائد والأناشيد التي كان يغنيها الشيخ سلامة حجازي باعتبارها رأس مال جديد له في العمل الذي اضطر لمزاولته ليلا، وكعادته مجتهدا، حفظ سيد كل ما سمعه عن الشيخ سلامة حجازي ولعل ذلك كان سببا في تأثره به.

ولكي لا نبتعد عن المضمون، فقد انضم سيد درويش لفرقة جورج دخول، وكان يطلق عيها اسم (فرقة كامل الأصلي) ومقرها حينئذ كان بقهوة إلياس بحي كوم الناضورة.
ظل سيد ملتزما بحضور السهرات التي كانت تقيمها الفرقة بقهوة إلياس، وكان الوضع مستقرا إلى حد ما، إلا أنه لم يستمر لفترة طويلة، فبسبب الخلافات تم حل الفرقة وتسريح أعضائها، فعادت الالتزامات ومتطلبات الحياة تطارد سيد من جديد، فضلا عن سوء أحواله النفسية بسبب فصله من المعهد الديني الذي كان التحاقه بفرقة جورج دخول سببا له.
ومع زيادة أعباء الحياة والمتطلبات الأسرية، بدأ سيد في البحث عن مصدر رزق جديد، فعرض عليه أحد المقاولين من أصدقاء أبيه (الحاج درويش البحر) أن يعمل معه في مجال البناء، فوافق سيد على الفور، وظل سيد يعمل في هذا المجال الذي لم يمنعه عن ممارسة هوايته والتعبير عن موهبته، فكان يغني أثناء العمل من أجل الترفيه عن هموم نفسه وهموم زملائه في العمل.

اضطرت ظروف الحياة الملحة أن يعمل سيد مناولا لعمال البناء، ولكي يخفف عن نفسه كان يقوم بغناء بعض الألحان الفلكلورية التي كانت شائعة بين الأوساط الشعبية وقتئذ، فإذا ما تسلطن العمال من أداء الشيخ سيد درويش زاد ذلك من حماسهم ونشاطهم، فكانوا ينسون ما بذلوه من جهد وما حل بهم من مشقة، وكان تبادلهم الغناء يؤكد بصدق الرابطة الإنسانية في توحيد المشاعر والأحاسيس التي تجمع عليها هؤلاء الكادحين.

ترقية أولى في حياة سيد .. مطربًا لأول فرقة عمالية

إقرأ أيضا
بيترو فازاي
سيد درويش
سيد درويش

كانت وظيفة مناول عمال البناء التي بدأها الشيخ سيد درويـش مؤخرا بمثابة طوق النجاة لتلك الأسرة الفقيرة، فقد انقطعت كل السبل المؤدية للرزق، وحيل بينها وبين سيد إلا من تلك الوظيفة الجديدة، فتمسك بها سيد واجتهد ليستطع المواصلة في سد حاجات أسرته.
ولكن أين ستذهب الموهبة؟؟ أين شغف سيد بالموسيقى والغناء؟ كيف سيواصل مسيرته الفنية؟
هموم كثيرة أثقلت رأس سيد وأخافته من مصير تلك الموهبة التي منحه الله إياها، فبدأ سيد في تحويل تلك الموهبة لمجاله الجديد فكان يغني للعمال، ويردد الأغاني الفلكلورية التي تحث على الجد والعمل، كما ذكرنا في الفقرة السابقة، إلا أن الأمر تطور وأصبح أكثر تنظيما، فقد كان سيد درويش حريصا على حفظ الكثير من الأغاني والاناشيد وتحضيرها ليلا ليكون جاهزا في صباح اليوم التالي بمخزون اليوم من الغناء، وكان لذلك عظيم الأثر في نفوس العمال، فكلما غنى سيد كلما قويت عزائمهم، وكلما رددوا معه كلما نسوا آلام كدحهم، وهو ما لاحظه المقاول، فقد لاحظ زيادة في الإنتاج ورغبة صادقة من عمال البناء في إقبالهم على العمل كلما صدح سيد درويش بالغناء، فكان ذلك سببا في ترقية سيد درويش، فقد اختاره المقاول ليكون ملاحظا للعمال وظيفته الوحيدة هي الغناء لهم أثناء العمل، ومنذ ذلك الوقت أصبح سيد درويش مطربا لأول فرقة عمالية من زملائه عمال البناء.

دور الأغنية الجماعية في حياة الشيخ سيد درويش

الشيخ سيد درويش
الشيخ سيد درويش

لعل من أهم المكونات الأساسية في الشخصية الفنية للشيخ سيد درويـش ذلك الحدث العارض الذي اضطره لممارسة مهنة مناول عمال البناء، فقد أثرت معايشته لهذه الأوساط في بناء ذائقته الفنية وأسلوبه الخاص، هذا التعايش بينه وبين الأغنيه الفلكلورية وكثرة ترديده لها بالغناء المتبادل بينه وبين العمال وإحساسه بأثر هذه الأغنيات في توثيق العلاقات الإنسانية الصادقة كان له عظيم الأثر الذي وجه الشيخ سيد درويش إلى الطريق الصحيح الذي يتوافق مع شخصيته.
أحب الشيخ سيد درويش الأغنية الجماعية التي تميزت بسهولة أدائها دون حاجة إلى جمال الصوت أو حرفية المؤدي، وبالتالي لم يكن اهتمام الشيخ سيد درويـش بها اهتماما عارضا بل كان اهتماما صادقا نابعا من داخله ناشئا عن ممارسة فعلية في درو حقيقي وواقعي قام به مده من الوقت، وذلك من خلال معايشته لطوائف العمال الكادحين في عمله وفي سهراته معهم بندواتهم الليلية التي كانت تغنى بها تلك الأغاني الفلكلورية البسيطة.
فضلا عن قدرة الشيخ سيد درويش على استيعاب دور البطانة في تأدية التواشيح والابتهالات بما فيها من تبادل روحي بين أفرادها وبينها وبين الصييت.

شاءت الأقدار دائما أن تضع للشيخ سيد أسبابا تؤهله لمكانته التي يستحقها، فكلما غدا أو راح توافرت له عوامل البيئة الخصبة للكشف عن خبايا فنه الكامن، يستحثه مدرس تارة وتستحثه رغبته في اكتشاف نفسه تارة أخرى وأحيانا يكون ضيق العيش والاضطرار للعمل سببا هو الآخر للكشف عن الجديد بداخله، كل هذه الوقائع أثرت الشيخ سيد درويش بالكثير من الأدوات التي أهلته في النهاية ليكون صاحب مذهب مستقل في الفن المسموع، ليبدأ في مرحلة جديدة هي مرحلة الاحتراف التي توافرت له أسبابها بمحض الصدفة أيضا.
وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في الحلقة القادمة.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان