قصة الطائرات اللاجئة .. الهبوط في مطارات الخلاف بين مصر والسعودية في الستينيات (تحقيق)

يمثل ملف الطياريين السعوديين وجمال عبدالناصر محطةً فارقةً في تاريخ العلاقات المصرية السعودية خلال مطلع ستينيات القرن الماضي، فبسببه وصلت العلاقات إلى نقطة اللاعودة.

الخلفية التاريخية .. العدوان والأمراء

رغم تردي الأداء العسكري عام 1956 م لكن خرج جمال عبدالناصر من مقصلة العدوان الثلاثي بانتصار ساحق، فقد عادت إلى القناة إلى مصر واكتسب جمال عبدالناصر جماهيرية عربية ساحقة أثارت إعجاب الأنظمة العربية والشعوب.

بعد عامين وبالتحديد عام 1958 م كانت الخلافات داخل الأسرة السعودية تدب بين الملك سعود بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير فيصل، وأسفر ذلك الخلاف عن مطالبة 8 أمراء بإصلاحات سياسية داخل السعودية بأيدولوجية جديدة لم تعهدها السعودية من قبل.

وفي نفس العام كانت الوحدة بين مصر وسوريا، وبعد أشهر من الوحدة أعلن جمال عبدالناصر عن ضلوع الملك سعود وزوجته في محاولة لإجهاض مشروع الوحدة، ورغم النفي السعودي لكن لم يتم الرد على ما طرحته مصر من وثائق تشير إلى تفاصيل محاولة قتل عبدالناصر.

انهارت الوحدة بين مصر وسوريا وبعد عام من سقوطها وبالتحديد سنة 1962 م استقبل جمال عبدالناصر الأمراء السعوديين الذين أرادوا إصلاحات داخل السعودية، وأطلق عليهم الإعلام المصري وقتها الأمراء الأحرار، وبعد أسابيع قليلة بدأت أتون حرب اليمن التي أججت الخلافات بين البلدين.

الطياريين السعوديين وجمال عبدالناصر وأسبوع المطارات

بعد 24 ساعة من تولي الأمير فيصل سلطاته التنفيذية بالصلاحيات الملكية، وبالتحديد في 2 أكتوبر 1962  م، كانت الطائرة CRB3 رقم 431 التابعة لسلاح الطيران الملكي السعودي تتجه إلى الحاميات السعودية في الجنوب، بقيادة الرئيس طيار رشاد ششة والرئيس طيار أحمد حسين طه والفني درجة ثانية عمر أزميرلي، ولم يكن يدور في خُلْد الملك فيصل والمملكة العربية السعودية حدوث عملية انشقاق عسكري.

كانت المهمة الذهاب إلى مطار نجران على الحدود السعودية اليمنية وتفريغ شحنة السلاح لمدة ثلاث مرات، لكن قائد الطائرة بعد مشاورات مع طاقمه قرروا النزول إلى مصر وإبلاغ جمال عبدالناصر بالأمر وذلك لأن شعورهم القومي والعربي يمنعهم من أداء المهمة، و كانت شحنة السلاح عبارة عن 20 صندوق تحمل 240 مدفع رشاش.

لم يكد يمضي يوم على البيانات السعودية إلا وتكرر الأمر نفسه في اليوم التالي بهبوط طائرة في مطار أسوان من نفس الطراز وبنفس شحنة السلاح يقودها الرائد طيار محمد عبدالوهاب والملازم طيار محمد علي الزهراني.

اقرأ أيضًا 
حقيقة قصة الشعراوي ونقل مقام إبراهيم .. أسباب تاريخية تجعل الحكاية غير حقيقية

وفي بعد 5 أيام من هبوط الطائرة الثانية وبالتحديد في 8 أكتوبر 1962 م نزلت طائرتان سعوديتان مقاتلتان يقود الأولى الرائد طيار أحمد موسى عواد، ويقود الثانية الرائد طيار عبداللطيف الغنوري.

نتيجةً لتصرف الطيارين السعوديين السبعة قررت المملكة العربية السعودية التعاون الجوي مع المملكة الأردنية الهاشمية، لكن الأخيرة تعرضت لنفس الموقف في 13 نوفمبر 1962 م حين قرر قائد سلاح الجو الأردني سهل حمزة مع الملازم حربي صندوقة والملازم تحسين صايمة، تسليم طائرتهما وما فيهما من سلاح والكشف عن مهمتهما وهي ضرب مطارات صنعاء والحديدة وتعز وما فيهم من قوات مصرية إلى جانب قصف السفن المصرية في البحر الأحمر المتجهة والعائدة من اليمن، فضلاً عن نسف إذاعة صنعاء، ومحطة الاتصالات اللاسلكية، وقلعة حجة، وإذاعة تعز، وميناء الصليف شمال مدينة الحديدة.

الصدمة في الداخل السعودي

أصيب الملك فيصل بن عبدالعزيز والمملكة العربية السعودية بصدمة مدوية، ومن فرط الصدمة تناقضت الأوصاف السعودية للطياريين في البداية، فبيان المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر وصفهم بأنهم عملاء للمخابرات المصرية وتم تجنيدهم بعد إغراءهم، أما قائد منطقة الطائف العسكرية ومعه وزارة الدفاع والطيران السعودية فقالوا أنهم خونة للواجب الوطني من أجل مصالحهم الشخصية، بينما وزارة الخارجية السعودية فقالت أنهم فارين من أداء الخدمة العسكرية.

ونفت السعودية كل ما قاله سهل حمزة وقالت أن الهدف لم يكن ضرب المواقع المصرية في اليمن وإنما رحلات الطائرات بين السعودية والأردن أمر عادي وطبيعي، وهو ما لم يصدقه أحد.

لأول مرة في تاريخ الجريدة الرسمية السعودية أم القرى تم تخصيص صفحات كاملة دعمًا للقيادة السعودية عسكريًا طوال شهري أكتوبر ونوفمبر، إذ اكتظت الصحيفة بالبرقيات المرسلة من طلاب وقادة الجيش السعودي دعمًا للملك ورفضًا للطياريين، وأرادت المملكة بذلك إثبات أن الجيش السعودي ليس به انشقاقات.

مصير الطيارين

قررت المملكة العربية السعودية تحويل كافة الطياريين إلى المحاكمة العسكرية بتهمة الخيانة وإفشاء أسرار عسكرية وقت الحرب، وطالبت مصر بتسليمهم.

رفضت مصر تسليم الطيارين إلى السعودية واستقبلهم الرئيس جمال عبدالناصر شخصيًا ثم أعطاهم حق اللجوء السياسي، وتم إدخالهم جميعًا في الخدمة بالقوات المسلحة المصرية، بينما قطعت السعودية العلاقات مع مصر.

لم يُعْثَر على أي أثر للطياريين بعد استقرارهم في مصر، باستثناء كلٍ من سهل حمزة وتحسين صايمة، ساهم جمال عبدالناصر في عمل صلح بين سهل حمزة والملك حسين سنة 1964 م، أسفر عن إسقاط حكم الإعدام عنه، ثم ساهم في حرب الاستنزاف وتقديرًا لدوره أطلقت مصر اسمه على شارع بحي الهرم لا زال موجودًا حتى الآن وهو شارع سهل حمزة، ثم عاد إلى الأردن سنة 1975 بعفو ملكي بعد خلافٍ مع السادات ولم يفتح ملف هربه لمصر، ثم أجرت معه قناة الجزيرة عام 2005 لقاءًا في برنامج زيارة خاصة وليس له وجود مرئي.

أما تحسين فؤاد صايمة فظل موجودًا في القوات المسلحة المصرية وشارك في حرب الاستنزاف كما قاد لواء مقاتلات قاذفة ميج 21 في حرب أكتوبر، وقاد اللواء 203 في معركة المنصورة الجوية، وقد تم تكريمه عام 2018 من وزارة الثقافة وهو يمتلك الآن مصنع للأحذية عنوانه 10 شارع عبدالسميع رحيم – وراق الحضر ـ الجيزة.

عبدالكريم أحمد مقبل القطحاني .. أزمة في خط الأزمة

تأزمت العلاقات المصرية السعودية بمجرد حدوث ثورة اليمن، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى نقطة اللاعودة بعد قصف القوات الجوية المصرية للجنوب السعودي.

اقرأ أيضًا 
عندما انجذب رئيس الاتحاد السوفيتي إلى القرآن في مصر بحضور جمال عبدالناصر

إقرأ أيضا

اّمال ماهر .. صوت مصر المحبوس

قُطِعَت العلاقات المصرية السعودية في نوفمبر من العام 1962 م، وبعد عامين برز اسم جديد في قائمة الطيارين السعوديين وجمال عبدالناصر وهو عبدالكريم أحمد مقبل القحطاني العسكري السعودي الذي لجأ إلى مصر سنة 1964 م لكنه اختلف عن بقية الطيارين السعوديين، فهم امتنعوا عن تنفيذ الأوامر وأخذوا لجوء سياسي دون معارضة بلادهم إعلاميًا، بعكس عبدالكريم الذي أعلن انضمامه لتنظيم اتحاد شعب الجزيرة العربية المعارض للسعودية والذي أسسه ناصر السعيد عام 1959 م.

كان أسلوب ناصر السعيد في المعارضة إعلاميًا عبر الكتب والبيانات التي ألقاها ضد السعودية وكانت شديدة القسوة ولم تعهدها المملكة من قبل، أما أسلوب عبدالكريم أحمد مقبل القحطاني فكان أسلوبه المعارضة المسلحة داخل السعودية نفسها.

لا يوجد ما يثبت أن جمال عبدالناصر كان داعمًا للحراك المسلح داخل العمق السعودي، إلا أن تمسح التنظيم في الناصرية ومبادئ جمال عبدالناصر ثم استخدامهم صورته أضفى اتهامات بأن عبدالناصر داعم للعمليات الإرهابية داخل السعودية من أجل قلب نظام حكم فيصل.

اقرأ أيضًا 
أغرب خطاب تسلمه جمال عبدالناصر وزوجته “الراسل أهل جاسوس لإسرائيل”

شهدت السعودية في الفترة من سنة 1966 وحتى العام 1969 سلسلةً من الهجمات المسلحة التي نفذها تنظيم اتحاد شبه الجزيرة العربية عبر يمنيين مقيمين في السعودية أو سعوديين لهم ولاء للناصرية، وكانت طبيعة العمليات هي استهداف أماكن حيوية سعودية.

أبرز تلك العمليات التي نفذها تنظيم اتحاد شبه الجزيرة العربية تفجير مبنى البريد وفندق زهرة الشرق في الرياض، وكذلك استهداف مبنى الأمن العام في المنطقة الشرقية، واستنفرت وزارة الداخلية السعودية التي كان يتولاها الأمير فهد (الملك لاحقًا) فقرر التنظيم استهداف فهد شخصية فتم تفخيخ سور قصره، ثم تم استهداف مبنى وزارة التجارة، وكذلك استهداف سور قصر الناصرية.

يلاحظ في عمليات تنظيم اتحاد شبه الجزيرة العربية أنها لم تكلف السعودية أرواحًا وإنما كبدتها خسائر مالية متواضعة، وكان السؤال عن مصدر التمويل ولأن أصابع الإتهام تتجه إلى مصر، قررت المملكة العربية السعودية في فبراير من العام 1967 إغلاق فروع بنك القاهرة وبنك مصر في أنحاء الملكة، ولم يتهم بيان الإعلان عن الإغلاق مصر بتمويل العمليات الإرهابية صراحةً لكنه ألمح إلى أن بنك القاهرة ومصر في السعودية قد تجاوزا حدود الأعمال البنكية المألوفة إلى أعمال وتصرفات تستهدف الإضرار بأمن السعودية.

النكسة تضع نهاية المسار

وقعت نكسة 5 يونيو 1967 م وانعقد مؤتمر الخرطوم في 29 أغسطس 1967 م، والتقى جمال عبدالناصر مع الملك فيصل، ورغم الصلح وحل مشكلة اليمن بالتوافق لكن عمليات تنظيم اتحاد شبه الجزيرة العربية بقيت مستمرة حتى مات عبدالناصر وبعد عام انتهى أمر التنظيم، فمات ناصر السعيد في عام 1979 ورحل عبدالكريم أحمد مقبل القحطاني سنة 2002 م.