رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
2٬025   مشاهدة  

ليل الكورونا الطويل .. وإعادة اكتشاف الحياة

ليل الكورونا


خلال اليومين الماضيين، لاحظتُ أن الشاب الذي يعمل في المقهى القريب من منزلي أصبح يُحييني مبتسمًا، أحسستُ بالحيرة وقد اعتدت وجهه بقسمات متجهمة لا تلين.. دفعني الفضول وشجعتني ابتسامته أن أسأله مبتسمًا: ما شاء الله! بقيت بتضحك في وشي كل ما تشوفني يعني.. أنت صحتك النفسية جات على الكورونا ولا إيه؟!.

كان الوقت متأخرًا، والمقهى شبه خال من الزبائن تقريبًا.. نعم، لم أعد أذهب للمقهى إلا في أوقات خُلوه التام من البشر؛ خوفًا من العدوى وتجنبًا للزحام.. ابتسم بخجل وهو يرفع صينية من فوق منضدة مجاورة وقال وهو يمسح موضع الصينية بقطعة قماشية: والله ما عارف، يمكن بقيت حاسس إن الحياة مش مستاهلة.
وتبادلنا ابتسامة تفاهم، وانصرف يُحضر لي قهوتي.
ومع القهوة بدأتُ أفكر، هربًا من الأفكار السوداء التي ملأت رأسي كأبخرة المصانع.

منحتني الإقامة شبه الإجبارية التي فرضتها على نفسي، خلال الأيام الأخيرة، وقتًا طويلًا للتفكير.. وكلما لمحت الفزع يتسرسب لقلبي، بينما تتوالى فوق رأسي أخبار انتشار الفيروس، حاولتُ شغل عقلي بالاستغراق في المزيد من التأمل في كل شيء من حولي مؤخرًا.. يقولون دومًا أن الخوف قادر على استخراج أسوأ ما في البشر من سلوكيات، لكني أضيف أنه قادر على جعلك تعيد اكتشاف نَفْسَك والحياة من حولك من جديد، أحيانًا.

الخوف بشع، لكن مَن ينسى أن الحياة ما هي إلا مغامرة للتنقيب عن الجمال، بين ركام السوء؟
رفوف المتاجر الكُبرى الخالية من السِلع شاهد على قُبح سلوكيات الفزع ونزعة النجاة الأنانية لدى البشر، لكن هناك، في ذات المتجر الكبير، حيث وقفتُ في صف طويل أمام الكاشير، وقف شاب في العشرينيات من عمره، يمسح لأمه العجوز الواقفة بجواره يديها بالكحول بتصميم وهو يلومها برفق شديد لا يخلو من الحزم على أنها نسيت أن تغسل يديها بالصابون قبل مغادرة المنزل، بعد أن سألها.. تأملته مبتسمًا في داخلي، بدا لي كطفل لا يتخيل الحياة بدون أمه، أستطيع أن أقسم أن الكورونا لو تجسَّد وحشًا، فإن هذا الشاب، بكل هذا الحب في عينيه، لن يترك أمه تُمَس إلا بعد أن يفديها بحياته.
وكأن الخوف يذكرنا بأننا لا نخاف الموت، بقدر ما نحن مستعدون لبذل أرواحنا دفاعًا عن أهلنا وأحبائنا.
الخوف..

للخوف تجار يراكمون الثروات في أيام انتشار الفزع بين الناس، وُجدوا دومًا، في أوقات الحروب والأزمات عبر التاريخ، وفي كل البلدان والعصور، لكن للخوف آيات حِسان في الناس أيضًا، للخوف المشترك رهبة تجمع الناس بعد تفرُّقهم.. في إيطاليا تم إغلاق المتاجر ما عدا الصيدليات ومحلات السوبرماركت، بعد أن تفشى الفيروس في بلدهم بشكل مخيف.. يمكنني تخيُّل مشاعر الإيطاليين المحاصَرين في منازلهم، وحدهم مع الخوف، والخوف يفترس الإنسان في وحدته، والوحدة هنا اختيارٌ إجباري لا هروب منه.. لكن الإيطاليون وجدوا مَهرَبًا بارعًا؛ حيث يمكنك أن تشاهدهم في عدة مقاطع مصورة، في مدن إيطالية مختلفة، يقفون في شرفات منازلهم، وعبر الشبابيك، يغنون بشكل جماعي.. اقشعرَّ جسدي وأنا أشاهدهم، وقلتُ لنفسي: جميل هو الإنسان، هذا القابع داخل كل واحد مِنّا تحت طبقات الغبار والدخان والشهوات، بكل تخريبه وغروره وجنونه، جميل بكل نقصه، فلو لم يكن جميلًا، فلم خلقه الله وفضَّله على جميع خلقه، وأحبّه بكل خطاياه؟

وهل غسلنا الخوف من خطايانا وصِرنا ملائكة؟
بالطبع لا.. بل إن الخوف قادر على استخراج أكثر السلوكيات عدوانية لدى البعض..
لكن بالنسبة للبعض الآخر، وأعتقد أننا الأغلبية، كانت الأيام الماضية فُرصة لإعادة اكتشاف أشياء كِدنا ننساها.
يستحيل إدراك حكمة الله من وقوع المصائب، خصوصًا في وقت حلولها، والموت أعظم المصائب، لكن هل كان البشر، في مجموعهم، في حاجة لهذه الهُدنة الإجبارية لتذكُّر أن كل شيء، ذلك الصراع الطاحن الدائر في كل اتجاه، يمكن أن يتوقف خوفًا من تأثير خطر فاتك، لجُسيم لا يُرى بالعين المُجردة؟.

في السنين الأخيرة ازدادت شراسة الإنسان تجاه نفسه، والطبيعة، ازدادت ماديته ورغبته في إشباع شهواته بكل السُبل، ولو كان على حساب حياة غيره.. هل كُنّا في حاجة لهذه الهُدنة الإجبارية، القاسية؟
لا أعلم.. ربما يكتشف أحفاد أحفادنا إجابات في المستقبل، ويتبادلونها ويناقشونها.. لكني غالبًا لن أكون موجودًا يومها لأشاركهم النقاش.

ما أعلمه جيدًا أن الحياة، بكل ما فيها من سوء، لا تزال غالية في قلوبنا.. وأنها- بشكل ما- جميلة تستحق أن نتمسك بالوجود فيها، ونحمي أحبائنا من مغادرتنا بكل ما نقدر عليه.

أفقتُ من خواطري على الصينية، وفوقها كوب القهوة، توضع بجواري على المنضدة، قبل أن يرفعها القهوجي بمهارة، ويمسح المنضدة بخفة، بقطعة قماشية بدت عليها النظافة، ويعيد وضع الصينية وهو ينظر لي ويشير للقماشة مبتسمًا: كنت ناقعها في ماية بكلور على فكرة، معقمة!

وتبادلنا الضحك من قلوبنا لهُنيهة، وانصرف، وترك في قلبي سؤالًا: هل كان لابد للموت أن يقترب مَنّا لهذا الحد، كي أشاهد صديقنا القهوجي يضحك؟

إقرأ أيضا
فيروس كورونا

اقرأ أيضا

أن يصيبك فيروس كورونا عمدًا .. “دُعابة أم خطيئة” ؟

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
37
أحزنني
1
أعجبني
17
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (3)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان