الأزهر والفاتيكان .. قصة تعاون رفضه الأمريكان سنة 52 وتعزز بالوفاق بعد سنوات الشقاق
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
لا تختلف العلاقة بين الأزهر والفاتيكان كثيرًا عن العلاقة بين كنيسة روما الكاثوليكية وكنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية، فالمد والجزر قائم في كل الحالات مع اختلافات في العقيدة.
علاقات ودية باردة منذ عام 1947 وأمريكا رفضتها سنة 1952 م
بدأت العلاقات بين مصر والفاتيكان منذ عام 1947، وكانت علاقة تقليدية عادية باردة دبلوماسيًا، حتى جاء العام 1952 م حينما عُرِضَت فكرة مشروع الصداقة العربية الإسبانية وهو المشروع الذي انقسمت تجاهه وزارة الخارجية الأمريكية حيث سيسفر المشروع عن تلاقي بين الأزهر والفاتيكان، فبعض الدبلوماسيين الأمريكيين رحبوا بالتعاون الروحي بين الفاتيكان ككنيسة والجامع الأزهر كأعرق مؤسسة إسلامية ضد الشيوعية لكن البعض الآخر خشي أن يكون هدفه إبعاد الفرنسيين من شمال إفريقيا.
تعززت الصلة أكثر في 15 ديسمبر 1965 حينما التقى الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر مع الكاردينال النمساوي الكاثوليكي فرانز كونينج واستمع الأخير لمحاضرة في القانون الدولي بكلية الشريعة وأعلن الكاردينال أن التعاون والتفاهم بين الأزهر والفاتيكان سيصل بالعالم إلى السلام.
وفي إبريل سنة 1976 أجرى الرئيس محمد أنور السادات زيارة إلى الفاتيكان كانت هي الأولى في تاريخ رؤساء مصر حيث التقى البابا بولس السادس بابا الفاتيكان، وبحثا العلاقات بين البلدين، واشتهر عصر البابا بولس السادس بالانفتاح على الكنائس غير الكاثوليكية، وألقى هذا الانفتاح بدوره على العلاقات مع الأزهر.
يوحنا بولس الثاني وسيد طنطاوي والثنائي المتفاهم
قويت العلاقة بين الأزهر والفاتيكان وبشدة في عصر الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ظهر ذلك عند زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى مصر في 24 فبراير عام 2000 ، وكانت هذه الزيارة هي الأولى من نوعها التي يجريها أحد بابوات الفاتيكان إلى مصر.
التقى البابا وقتها بشيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي، والبابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل وذلك للتأكيد على أهمية الحوار بين الديانات، كما التقى البابا الراحل بالرئيس السابق مبارك حيث تبادل الجانبان وجهات بشأن مسيرة السلام في الشرق الأوسط ومستقبل، فضلا عن ملف العلاقات الثنائية بين مصر والفاتيكان.
اقرأ أيضًا
“صور ووثائق” لماذا لم يحذف الأزهر اسم حسني مبارك من 2011 حتى الآن
كان بين بولس الثاني ومحمد سيد طنطاوي ثنائيًا متفاهمًا لأقصى حد ، ولعل علاقة بولس الثاني نفسها بالإسلام سهّلت هذا التفاهم بين رأس المؤسسة الأزهرية ورأس المؤسسة الكنسية، وعلاقة بولس الثاني بالإسلام علاقة مشهود لها بالاحترام من كل المسلمين في العالم وتاريخه يشهد بذلك بأمثلة متعددة.
تولى بولس الثاني منصبه في 16 أكتوبر عام 1978 وبعد سنوات قليلة من توليته المنصب بدأت علاقته تظهر جليّة مع الإسلام بمظهر الاحترام والتقدير؛ ففي عام 1981 أصدر يوحنا بولس الثاني «التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية» وناقش فيه قضية خلاص غير المسيحيين، واعتبر البابا في الوثيقة التي تعتبر دستور رسولي أن خطة الله للخلاص تشمل المسلمين أيضًا الذين يعبدون معنا الله الواحد وكان المجمع الفاتيكاني الثاني قد أصدر خلال حبرية البابا بولس السادس وثيقة شبيهة عن المسلمين .
لم يلتفت أحد إلى هذا الموقف مثل التفاتهم لموقف 6 مايو 2001 عندما قام بالدخول للمسجد الأموي وأصبح يوحنا بولس الثاني أول بابا كاثوليكي يقوم بذلك خلال زيارته لسوريا وأصر على إتباع العادات الإسلامية فخلع حذائه لدى دخوله المسجد، وقام بتقبيل القرآن الأمر الذي جعل له شعبية واسعة بين المسلمين، وقام بالصلاة أمام ضريح يوحنا المعمدان المعروف باسم النبي يحيى في الإسلام، وألقى خطابًا قال فيه: «إن المسلمين والمسيحيين أساؤوا إلى بعضهم البعض، ونحن اليوم نطلب الاستغفار عن ذلك من الله العلي والقدير، ونقدم الاعتذار عن كل خطأ آخر».
وحل عام 2004 وأقام البابا «الحفلة البابوية للمصالحة» والتي جمعت قادة مسلمين مع زعماء يهود وقادة كاثوليك في الفاتيكان؛ كل ذلك شكل علاقة قوية بين بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني وبين محمد سيد طنطاوي وظهر ذلك جلياً في تصريحات الاثنين بحق بعضهم .
توفي البابا بولس الثاني في 2 إبريل 2005 ولم تنقطع العلاقات بين الدولتين، ثم تأتي زيارة الرئيس السابق مبارك للفاتيكان يوم 13 مارس 2006 حيث التقى البابا بنيدكت السادس عشر، وذلك للمرة الأولى منذ استلام البابا مهام الكرسى البابوى؛ وتطرقت المحادثات الثنائية إلى العلاقات الطيبة التي تجمع مصر والفاتيكان، واستعرضت مستقبل السلام والاستقرار فى الشرق الأوسط، وتم تبادل وجهات النظر حول تطورات الأوضاع فى العراق وإيران .
بنديكت السادس عشر يهاجم الإسلام وسقطة لطنطاوي تداركها قبل وفاته
كان بنديكت السادس عشر له تصرفات في بداية منصبه جعلت الكل يُهيئ لهم أنه سيكون مثل سلفه يوحنا بولس الثاني، فقد قام بنديكت تركيا في 30 نوفمبر 2006 وزار مسجد السلطان أحمد، ليكون بذلك ثاني حبر أعظم يقوم بزيارة لموقع إسلامي بعد يوحنا بولس الثاني الذي زار الجامع الأموي في دمشق عام 2001 وزار أيضًا مسجد الملك الحسين خلال زيارته الأردن في 9 مايو 2009 كذلك فقد التقى ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز ليكون بذلك أول لقاء بين ملك سعودي ورأس الكنيسة الكاثوليكية وأول زيارة من قبل ملك سعودي للفاتيكان.
إلا أن المحاضرة التي كانت في ألمانيا يوم 12 ديسمبر 2006 صدمت العالم كله وتسببت في مظاهرات احتجاجية عارمة فقد تطرق لموضوع “آيات القتال” في القرآن واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الإمبراطور البيزنطي وأحد المفكرين الفارسيين حول دور النبي محمد وشدد على أن النبي “أمر نشر الدين بالسيف” ووقتها اندلعت المظاهرات العارمة فصدر بيان من الكنيسة الفاتيكانية أكد أن محاضرة البابا لم تكن للحديث عن المسلمين بشكل مخصوص، بل أيضا الوضع في الديانة اليهودية والمسيحية.
عندما صدرت هذه التصريحات رد عليها شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي رداً اتسم بالهدوء وفيه تبجيل مبالغ فيه لبنديكت بألفاظ ” قداستك ، حضرتكم ، جنابكم “، وقد نُشر هذا الرد في ملحق مع مجلة الأزهر باللغات ” الإنجليزية والفرنسية والألمانية “، وتُرجم إلى العربية ، وكان وقتها شيخ الأزهر يأمل في أن يقوم بنديكت بتقديم اعتذارات صريحة ومباشرة ، لكن ذلك لم يأتي بثمار ولم تجد الكنيسة رداً عنيفاً عليها من الأزهر، فقرر بنديكت بدعوة شيخ الأزهر لزيارة الفاتيكان فرفض شيخ الأزهر في 19 سبتمبر 2006 دعوة البابا بنديكت السادس عشر لزيارة الأزهر ، وإلقاء محاضرة لتوضيح موقفه.
ووصف تصريحات بنديكت السادس عشر بأنها سقطة علمية ودينية لا تليق بمن يشغل هذا المنصب الكبير.
وأعلن الشيخ عمر الديب وكيل الأزهر ورئيس لجنة حوار الأديان توقف أي حوار مع الفاتيكان وتعطيل أعمال اللجنة لحين اعتذار البابا، وجاء ذلك في لقاء شيخ الأزهر مع وفد ضم سكرتير سفارة الفاتيكان في القاهرة وعددا من قيادات الكنائس الكاثوليكية في مصر؛ وطالب طنطاوي بابا الفاتيكان بإعلان اعتذاره بكلمات واضحة وصريحة عن تصريحاته المسيئة للإسلام ، وأن يعترف بالخطأ الذي وقع فيه في خطابه باستشهاده بكتابات قديمة لا تمت للإسلام بصلة؛ وفي 25 سبتمبر 2006 التقى البابا سبعة عشر سفيرًا من سفراء الدول الإسلامية المعتمدين لدى الفاتيكان وألقى خطابا أبدى به أسفه من تداعيات الموقف وبرغم كل هذا لم يفلح بنديكت في إزالة التوتر بين الفاتيكان والعالم الإسلامي .
وفاة سيد طنطاوي تتسبب في فهم خاطئ من بنديكت لأسلوب الطيب
في 20 مارس 2010 وعن عمر يناهز 81 عاما توفي شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي إثر نوبة قلبية تعرض لها في مطار الملك خالد الدولي عند عودته من مؤتمر دولي عقده الملك عبد الله بن عبد العزيز لمنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام للفائزين بها عام 2010، وتمت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة العشاء بالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة ووري الثرى في مقبرة البقيع.
تولى الشيخ أحمد الطيب المنصب في يوم 19 مارس من نفس العام ولم يُظهر شيخ الأزهر وقتها أي موقف ضد الدنمارك وتحلى بالصمت حتى هُيئ لبنديكت أن الطيب مثل سلفه طنطاوي رجلاً ليناً خاصة وأن المُعيّن لهم هو الرئيس السابق مبارك إلا أن بنديكت كان على خطأ كبير أثبتته الأيام فيما بعد قولاً وفعلاً.
حدث الصدام الأعنف بين الطيب وبنديكت في يناير 2011 عشية انفجار كنيسة القديسين فقد صرح بنديكت تصريحات استفزت الجميع ، حيث طالب بالتحقيق في القضية ولا بأس من تدويلها مطالباً بفرض حماية للأقباط والذي يعانون أشد المعاناة في ظل الإسلام الذي يحكم مصر .
اقرأ أيضًا
عندما ساهم الأزهر في تعليم الصنايع لدول أوروبا “حدث بالفعل من 273 سنة”
كان الطيب هنا بالمرصاد حيث أصدر بياناً عنيف اللهجة صب فيه جام غضبه على سلوك بنديكت، واصفاً تدخله بالغير مقبول، مشدداً على أن بنديكت ليس من حقه أن يتدخل في شأن دولة صغيرة فكيف يتدخل في شأن دولة كبيرة مثل مصر ، مطالباً إياه بالصمت حيث أن تصرفاته تسيء للمسيحية ، ففوجئ بنديكت بهذه التصريحات مفاجأة قاسية فرد على شيخ الأزهر برد عنيف حيث قال بنديكت لم نتدخل ولا ندري ما هو سبب كلام شيخ الأزهر وفهمه لكلام البابا فهماً خطئاً.
انتظر الجميع وقتها بياناً يرد على بنديكت إلا أن الشيخ الطيب قد سلك سلوكاً آخر واستبدل سلوك نستنكر وندين بسلوك الفعل الخالي من القيل والقال، حيث أصدر شيخ الأزهر وقتها قراراً خارج التوقعات الدبلوماسية وخارج توقعات بنديكت نفسه، حيث قرر شيخ الأزهر وقتها قطع كافة العلاقات بين الأزهر والكنيسة في الفاتيكان وتعليق جميع جلسات الحوار بين مندوبي الأزهر والكنيسة ، وعدم مشاركة الأزهر في أي مؤتمر يحضره ممثل عن الفاتيكان، كما قرر الطيب أن لا يقبل أي وساطة من السفارة المصرية أو سفير مصر بالدنمارك إلا عندما يقوم بنديكت بتقديم اعتذار واضح وصريح للإسلام ثم الأزهر وإن لم يتم ذلك فلن ترجع العلاقات مطلقاً ولو دامت لسنين طويلة، وصُدم بنديكت صدمة عنيفة فقد مثل قرار شيخ الأزهر هذا صفعة على وجه بنديكت وجعل الكنيسة منعزلة عن أي مؤتمر سلام ما دام الأزهر لن يحضر؛ وبعد هذه الحادثة والواقعة استقال بنديكت لأسباب صحية في 28 فبراير 2013 م.
فرانسيس يحاول إذابة جبل الجليد والأزهر يعطي شروطه
تولى فرانسيس مهام منصبه في 13 مارس 2013 وحظي بسمعة طيبة نظراً لخلو ماضيه من التصرفات الرعناء التي كان يفعلها بنديكت فقرر الأزهر إنهاء مرحلة تجميد الحوار مع الفاتيكان، التي استمرت لأكثر من عامين، بعد إعلان بنديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، عن استقالته.
وأكد الطيب قرار عودة الحوار مع الفاتيكان جاء بعد استقالة البابا الذي أساء للإسلام بشدة، في موقف غريب كان يدل على التعصب، مشدداً على أن الأزهر سيبدأ مرحلة جديدة من الحوار بين المؤسستين، على أساس من الندية والتكافؤ والاحترام المتبادل، وعدم الخوض في العقائد ولكنها ستتسم بالندية.
وأرسل فرانسيس الأول بابا الفاتيكان رسالة إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، أعرب فيها عن تقديره واحترامه للإسلام والمسلمين، كما أعرب عن أمله فى أن يلتزم الجميع من أجل التفاهم بين المسيحيين والمسلمين بالعالم لبناء السلام والعدالة.
وفي 17 سبتمبر 2013 أكد فضلية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر أن الأزهر الشريف دائما يرحب بالحوار لأن الدين الإسلامي يدعو إلى التعايش مع الآخر أيا كانت ديانته أو حضارته أو ثقافته وأن يقوم الحوار على احترام كلا الطرفين لرأي الآخر وهو ما تدعو إليه الشريعة الإسلامية.
ظهرت في الأفق ملامح انقشاع وإزابة للجليد بين الأزهر والفاتيكان وذلك في 30 سبتمبر 2013 عندما استقبل البابا فرانسيس بابا الفاتيكان بمقر البابوية في روما فضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام، والذي يزور روما تلبية لدعوة جماعة سانت ايجيديو الموجهة إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، للمشاركة في المؤتمر الدولي بعنوان شجاعة أمل – الديانات والثقافات في إطار الحوار .
وأعلن شيخ الأزهر أن تحقق الشروط الواجبة لعودة الحوار مع الفاتيكان والتي حددها الأزهر الشريف هو شرط للترحيب بعودة الحوار بين الأزهر والفاتيكان وسيتم الترحيب بهذا الحوار مادام يأتي في إطار تلك الشروط التي حددها الأزهر.
نمت علاقات وطيدة بين مصر والفاتيكان خلال حبرية فرانسيس إذ اعتبر الأخير في عام 2017 أن مسار العائلة المقدسة في مصر حج مسيحي، وتم إدخاله ضمن زيارات الفاتيكان ثم وتوجت العلاقة بين البابا فرانسيس وشيخ الأزهر بتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في 4 فبراير سنة 2019 وهي من 12 بند.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال