بين التَّشدُّدِ الدِّينيِّ والتَّناقضِ اللِّيبراليِّ.. تحليقٌ ضروريٌّ في المجالِ الحُرِّ المُنْتَهَك
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
الثورات العربية التي فشلت فشلا ذريعا، في مجملها، هي التي جدَّدت حديث الحريات في منطقتنا العربية، وقد جرت أكاذيب كثيرة بهذا الشأن، ووقع خلط في الأوراق لا مثيل له، وانكشف وجه التيار الديني القبيح الذي يرتدي قناع الحرية من أجل مصالحه، فإذا تحققت المصالح؛ خلع القناع وجَدَّ في ضبط الناس على ما يراه هو الحرية، وغالبا ما تكون رؤيته للحرية ناقصة بائسة، محكومة بالنص الديني في تأويلاته الماضوية الضيقة لا المعاصرة الرحبة، وغالبا ما تكون داعمة لإحكام سيطرته على الأوضاع وانفراده بالحكم الذي هو غايته قبل الدِّين، أو غايته من الدِّين على وجه الدِّقَّة.. وانكشفت وجوه الليبراليين أيضا، هؤلاء الذين يدَّعون إيمانا زائدا بالحريات، وعند مناقشة موضوع بسيط لا يدخل في جملة ما يؤمن معظمهم به، والأمثلة كثيرة، يرسبون رسوبا مهينا في الامتحان؛ إذ يرفضون اعتبار ما لا يؤمنون به ضمن المسائل الحُرَّة أصلا!
بين هؤلاء المتشددين في الدِّين الذين عاملوا الدنيا بمنطق الكراهية والتحدي لا المحبة والوئام وآثروا الموت على الحياة والعدم على الوجود وأرادوا حكم الواقع المُتغيِّر الذي ليس مُنَزَّهًا عن الأخطاء بالنَّصِّ الثَّابت المُقدَّس وبين أولئك الليبراليين المتناقضين المتشدقين بالفلسفة السياسية لمذهبهم المؤسَّس على الحرية والمساواة “تُشدِّد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حينٍ أنَّ المبدأ الثاني وهو المساواة يتجلَّى بشكل أكثر وضوحا في الليبرالية الاجتماعية”.. بين فريق التشدد في الدين وفريق التناقض الليبرالي تفرَّق دم كثير، وضاعت حقائق مهمة، ونال أدعياء شهرة ما لم ينله مستحقوها، وكانت النتيجة صفرية بكل معنى الكلمة، لا صرنا إلى الدِّين الحقِّ الذي عمقه العلم والنور، ومظهره الخير والجمال، وخلاصته الرحمة، ولا نحن ذهبنا إلى انعتاق الإنسان وتساويه بالأسيادِ وغِنَاه ورُقيِّه وسعادته وامتلائه بالتفاؤل والأمل، ومن ثمَّ إلى عمران المجتمعات الباذخ وازدهارها المبين.
التشدد الديني قُتِلَ بحثًا وكلامًا حتى لم يعد في فضح جهله وظلامه قولٌ جديدٌ يلهم مناهضيه، وكل ما يقال فيه الآن هو إعادة لما سبق وقاله مفكِّرون وباحثون وكتَّاب، بعضهم دفع حياته ثمنا لما تصدي له من ظلاميات المتشددين وجهالاتهم وماضويتهم المفرطة وإمعانهم في السير إلى الغيوب، أعني أعاد اللاحقون المُعَادُون لتطرف المتطرفين ما قاله آباؤهم المستنيرون إعادة تختلف أشكالها عن الأصول لكن الجوهر واحد، ولست أقصد أن يكفَّ متناولو الموضوع الحاليون عن تناوله بالإبانة والتحليل وإظهار المساوئ الرهيبة، لكن أن ينتبه فاعلو ذلك من أمثالهم لضرورة بذل الجهد المخلص في قراءة الواقع المتزمِّت وتأمُّله، بأناةٍ وتروٍّ ووعيٍ ونباهةٍ، من أجل العثور على مناطق ملتهبة فارقة لم يسبق طرحها، مناطق تناسب تعقيدات الحالة العالمية الجديدة، وتوافق حداثة هذه الفترة الزمنية بنطاق التطور التكنولوجي الهائل الذي وصل إلى جبال “تورا بورا” في أفغانستان، كما وصل إلى كل ركن قصيٍّ في هذا العالم السريع المجنون، والفسيح الذي ضيَّقته العولمة الماكرة، حاصرته لتحصيه وتفرزه وتسلبه كنوزه الخاصة الفريدة لا لتلملم أشلاءه، وألهته بلقب “القرية الصغيرة”.. خدعته بطرق شيطانية مُحْكَمَة لضمان تفصيل مستقبله على هواها!
يرفض الليبراليون، في أغلبيَّتهم، كتابًا (ولو صغيرًا) يناقض ما يدعون إليه بالجملة والتفاصيل، أو حتى يخالفهم في الجزئيَّات دون الكلِّيَّات، والأغرب أن كثيرين منهم قد يطالبون فورا بمنع صدوره لو كان ما يزال أوراقا متفرِّقة في المطبعة، أو يطالبون بسحبه من السُّوق وحجب الأضواء عنه لو كان صدر فعليًّا وحقَّق ذيوعًا ملحوظًا، وفي المقابل يصفون خصوم أفكارهم بالتَّخلُّف والرَّجعيَّة، ومع أن كثيرين منهم يمارسون فعالًا لا تمتُّ للأخلاق بصلة، إلا أنهم يدافعون عن ممارساتهم باستماتة، ويخطِّئون كلَّ من يقف أمامها محتجًّا، ويستهجنون منطقه، ويسفِّهونه ويعنِّفونه، بل يشطبون اسمه من سجلَّات المتعلِّمين فضلًا عن العَالِمِين!
هذه أمورٌ مستفزَّة بلا جدال، ولا تشي بدراية فاعليها بقيم التربية الصَّحيحة والحقوق الإنسانية، وعلى رأسهما تقبُّل الآخر، ولا درايتهم بالدِّين وقضاياه الشَّائكة الحسَّاسة، ولا المجتمع الذي نعيش فيه بمواريثه من العادات والتقاليد وجملة مبادئه وطبائعه.. من الجائز أن يكون الكيان الليبرالي الذي يريد التغيير ثوريًّا طليعيًّا مستنيرًا فعلًا؛ يودُّ أن يخلِّص البشر من القيود ويفتِّح أبواب مجتمعه المغلقة ويبرِّئ الدِّين من أن يكون كيانا شكليًّا فارغا من المضمون، وهذا رائع من جميع زواياه ولا عوار فيه، لكن ما على صاحبنا المتحمِّس هذا إلا أن يتحلَّى بالصَّبر والذَّكاء، وأن يعلم أن الصِّراع طويلٌ وضارٍ، ويحتاج إلى حِنْكة وحِكْمة لا إلى تحفيز الآخرين إلى العداء والمصادمة؛ لأنه لو عادى الخلق وصادمهم فستضمحلُّ طاقته التي للتَّغيير مع كثافة الحروب الصَّغيرة التي يضع نفسه هكذا، طواعية، في قلبها الذي كقلب طاحونة ساحقة.. وغالبا لن يفيق أبدا قبل أن تبدُّده. إنَّ مسار الحرية متأزِّم في بلادنا، نعم لدينا مكافحون لفدائه، لكنَّ قلَّة بينهم من
تتوفَّر فيهم شروط إنعاش المريض الذي حالته متأخِّرة!
اقرأ أيضا
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد