تاريخ التطعيم من الجدري .. عندما صُنِع اللقاح من أفواه الجهلاء
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تجددت سيرة التطعيم من الجدري كأمنية عالمية في أن يتم الخروج من فخ جدري القرود، لكن منظمة الصحة العالمية ذلك أنه لا يوجد لقاح لجدري القرود رغم أن التطعيم السابق ضد الجدري أثبت نجاحًا عاليًا في الوقاية من جدري القرود.
اقرأ أيضًا
تاريخ الإجراءات الاحترازية للأوبئة “عقوبة المخالفة في زمن محمد علي باشا كانت أعنف”
يكابد العالم في التأقلم مع فيرس كورونا وتزامنًا مع حالة الانفراجة بعد عامين من الغلق، جاء جدري اوالذي ظهر في المرة الأولى عام 1958 م في وسط وغرب إفريقيا بين القرود، وبدأ يعرف طريقه للبشر عام 1970 م واستمر على فترات متقطعة حتى تم إعلانه كوباء عالمي عام 2022 م.
أزمة الجدري
قبل قرون سابقة كان الجدري من أكثر الأمراض إثارةً للخوف لدى الأوروبيين بعد الطاعون فقد كان يفتك بكمية هائلة في أقل مدة لدرجة أنه منذ أوائل القرن الثامن عشر يقضي على حياة نحو نصف مليون شخص سنويًا في أوروبا إلى جانب آلاف أخرى في آسيا، وفي بريطانيا كان الجدري يتسبب في وفاة واحدة من بين كل 12 حالة وفاة، أما من ينجو من هذا المرض فيظل مشوهًا مدى الحياة بسبب تلك الآثار أو الكلوم التي تتركها البثور التي تظهر على جميع أنحاء الوجه والجسم أثناء المرض.
اقرأ أيضًا
الطاعون الأنطوني والجدري الأسود.. أمراض وأوبئة هددت البشرية
من الآثار الأخرى التي تتخلف عن الجدري الإصابة بالعمى والصمم إلى جانب التشوهات الشكلية، وتتفاقم الآثار الجانبية للجدري حتى تصل إلى الموت بمجرد لمس الشخص المصاب بالجدري أو حتى جزء من ملابسه.
وسائل بدائية في التحصين
قديمًا كانت هناك عادات غريبة في التطعيم من الجدري، حيث قناعة تفيد بأن من يشفى بالجدري لا يصاب به مرة ثانية، وأدى ذلك إلى الاستنتاج بأنه ما دام الشفا ممكنًا في بعض الحالات، فإن المرض قد يوجد بشكل مخفف، ولذا كان من المستحسن أن يصاب المرء بالعدوى عن طريق الاحتلاط بالمرض المصابين به بصورة مخففة، وبذلك يصبح المرء مخصنًا بقية حياته من المرض.
كان أهل الصين أول من مارس هذا النوع من التحصين في القرن السادس الميلادي، حيث كانوا يلبسون أطفالهم ملابس التطعيم، بينما كان الأطباء في أوروبا يأخذون السائل من بئور المصاب بالجدري، ثم يغمسون إبرة في هذا السائل ويشكون بها من يريدون تحصينه.
بدأ إدخال التطعيم في انجلترا خلال أوائل القرن الثامن عشر على يد ليدي ماري ورتلي مونتاجيو زوجة السفير البريطاني في تركيا، إذ رأت ماري التي شوه الجدري جمالها، رأت نساء الأتراك يقمن بتطعيم أطفالهن بإعطائهن الشكل المخفف من المرض وغالبًا ما كان يتم الشفاء، وتم تطعيم ولدها ذا الـ 6 سنوات بنجاح، فعادت إلى انجلترا وكلها حماس للعلاج الجديد، لكن سرعان ما تبين الأطباء أن التطعيم ضد الجدري له أخطاره، فلم يكن المرض الناتج عنه من النوع الخفيف دائمًا بل كان مميتًا في بعض الأحيان وكان يؤدي إلى 4 حالات وفيات بين كل 300 شخص يتم تطعيمهم.
كيف جاء التطعيم من الجدري
في أواخر القرن الثامن عشر بدأ إدوارد جينر الطبيب الريفي الإنجليزي في القيام ببحث جديد ومبتكر، فعندما كان طالبًا يدرس الطب سمع فتاة ريفية تقول «إنني لن أصاب بالجدري لأنني أصبت من قبل بجدري البقر».
نقل جينر هذا الكلام إلى صديقه ومعلمه الكبير جون هنتر الذي تحدث في محاضراته عن هذه العقيدة الريفية وهي أن جدري البقر يحصن الناس ضد الجدري، وأثناء عمله في الريف ومن خلال أسئلته للمزارعين من أهل المنطقة اكتشف جينر أنهم كثيرًا ما تنتقل لهم عدوى هذا المرض الحميد جدري البقر عن طريق بقراتهم وكان يتم الشفاء بالنسبة لهؤلاء المزارعين والفلاحين دون أن يترك المرض ندبات، كما أن الفتيات اللاتي يعملن بحلب اللبن اشتهرن ببشرتهن الصافية ووجوههن التي لا تشوبها شائبة وكان ذلك أمرًا نادرًا بين النساء في ذلك الوقت.
اقتنع جينر بأن جدري البقر إن هو إلا نوع من الجدري وأن من يصاب به يصبح محصنًا ضد النوع الأكثر خطورة، وواتته الفرصة يوم 14 مايو 1796 م حين أصابت العدوى يد سارة نيلمس وكانت ممن يعملن بحلب البقر أثناء عملها، فقام جينر بسحب السائل أو الطعم الليمفاوي من القرح في يد الفتاة ثم قام بتطعيم فتى سليم الجسم يدعى جيمس فيبس بهذا الطعم الليمفاوي، وكان هذا أول تطعيم قام به وكان ناجحًا تمامًا، فقد تم تطعيم الصبي ضد الجدري وثبتت حصانته لهذا المرض، وبذلك أثبت جينر أن فيروس الطعم في مقدوره أن يعطي حماية كاملة ضد هذا المرض المخيف.
حتى العام 1798 كان جينر قد قام بتطعيم 3 آخرين من المرضى وكانت النتيجة أن أصبحوا جميعًا محصنين ضد الجدري، ثم ذهب إلى لندن ونشر نتائج بحثه، وكان يعلم أن واجبه يقتضي بأن يجعل اكتشافه معروفًا على نطاق واسع بين الأطباء والرأي العام البريطاني وفي جميع الدول الأخرى التي يفتك الجدري بأرواح آلاف من مواطنيها.
بحلول مارس سنة 1801 أعلن جينر أنه تم تطعيم 100 ألف شخص في بريطانيا وحدها وانخفضت معدلات الإصابة بالجدري سنويًا، وسرعان ما أرسل كميات من الطعم الليمفاوي إلى بلاد عبر البحار وبدأ التطعيم في فيينا وبرلين وامتد حتى وصل إلى الهند وتركيا، وبعد 20 سنة من نظام التطعيم بدأ التبلغي عن حالات جدري بين أشخاص سبق تطعيمهم ولم تحدث هذه الحالات بين الأطفال وإنما في البالغين فتبين أن الحماية من الجدري لا تستمر على مدى الحياة وبالتالي ينبغي التطعيم على فترات متباينة.
رغم نجاح جينر في لكنه كان يفضل الريف ويؤثره ولذلك رفض عدة عروض مغرية للبقاء وسرعان ما عاد إلى قريته في جلوستر شاير ليتابع عمله.
المصدر
-
“كيف اختبر إدوارد جينر لقاح الجدري الخاص به؟” ـ ديلي تلغراف
-
الطب في الطوابع إدوارد جينر قاهر الجدري – جامعة هاواي
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال