سارة وجمال .. ثنائية رسمت نهاية الدولة العثمانية بالجنس والتجسس
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
نجح ثنائي سارة وجمال في رسم نهاية الدولة العثمانية التي كانت ستحدث بحكم ظروف عسكرية واقتصادية وسياسية داخل الآستانة، لكن كان الطابع الاستخباراتي خيم على ملابسات الفصل الختامي لتاريخ الإمبراطورية البالغ عمرها 6 قرون، عبر قائد الجيش الرابع العثماني، وعشيقته الجاسوسة اليهودية سارة زيخرون ياكوف أرونسون.
ما قبل ثنائي سارة وجمال .. لغز عائلة زيخرون ياكوف
هاجر أرونسون إلى فلسطين خلال العام 1881 م واستقرت في مستوطنة بمدينة عتليت ونجح في تحويلها إلى مجتمع زراعي وأطلق عليه اسم موشاف، ثم استقبل مولودته الجديدة يوم 5 يناير سنة 1890 م وسماها سارة.
تمكنت سارة بنت أرونسون من تعلم عدة لغات مثل التركية والعربية والفرنسية والإنجليزية والعبرية، وتفوقت دراسيًا لدرجة لافتة حتى أعجب بها حاييم أبراهام أحد تجار اليهود البلغار، فتزوجها وسافر بها إلى اسطنبول ثم وقع الطلاق عام 1915 وقررت العودة إلى فلسطين.
حدث رجوع سارة أرونسون إلى المستوطنة عقب بدء الحرب العالمية الأولى التي دخلت فيها الدولة العثمانية كحليفة لألمانيا، وكانت تلك الحرب قبلة الحياة بالنسبة للمهاجرين الصهاينة الذين أسسوا مستوطنات لهم داخل فلسطين.
قرر الصهاينة التحالف مع الإنجليز ضد الدولة العثمانية بعدما عرفوا أن الآستانة في طريقها للنهاية، وقررت انجلترا استغلال العنصر الصهيوني في فلسطين بهدف إخلاءها من أي قوة عسكرية غير بريطانية، وهذا لن يتم إلا بتشكيل خلية جاسوسية.
تشكيل خلية نيلي التجسسية والطريق إلى قلب جمال
شهد العام 1915 تأسيس خلية تجسسية صهيونية سرية اسمها «نيلي» على يد آرون أرنسون تعمل لصالح الإنجليز ومكونة من «سارة، ألكسندر،ريفكا، يوسف ليشانسكي، أفشاليم» وكان مقرها مستوطنة زيخرون في عتليت.
يحدد المؤرخ التركي لطفي أكدوغان سبب تسمية الخلية بـ «نيلي»، أنه اسم مكون من الحروف الأولى لعبارة عبرية في سفر صامويل ترجمتها بالعربية «خلود إسرائيل ليس كذبة»، واتخذت الخلية ساترًا بالمقر إذ كان ظاهره مختبر للأبحاث النباتية يملكه شقيق سارة.
اقرأ أيضًا
الجنس في الدولة العثمانية “من الممارسة بالآيات حتى تقنين الدعارة”
انحصرت أهداف خلية «نيلي» في جمع المعلومات العسكرية عن الجيش العثماني في سوريا وفلسطين وإيصال تلك المعلومات إلى مقر القوات الإنجليزية في القاهرة، وكان التسلل إلى داخل البلاط العثماني سهلاً بالنسبة لآرون أرونسون فالأخير في أصله عالم نباتات، وحين تفشى وباء الجراد في الجنوب الشامي، خشي قادة العثمانيين من أن تتأثر إمدادات الجيش العثماني غذائيًا، فقرر جمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني تعيين «آرون أرونسون» في منصب «مدير محطة التجارب الزراعية» داخل مدينة عتليت بصلاحيات عسكرية.
استفاد آرون أرونسون من قرار جمال باشا حيث تحرك بأريحية بين مدن الشام ونجح في تدوين ملاحظاته حول القوات العسكرية في الحلف العثماني الألماني، وحولها عبر التلغرافات بصيغ مشفرة إلى وكالة الاستخبارات الإنجليزية في القاهرة، لكن كان هناك تحديًا بالنسبة لآرون وهو كيف يصل إلى عقل الجيش العثماني نفسه.
لقاء سارة وجمال باشا وبدء نهاية الدولة العثمانية
الحل السحري الذي لجأ إليه آرون أرونسون من أجل الوصول إلى جمال باشا، تمثل في عمل أخته بجسدها الفتان عبر تشكيل خلية من البنات يعملن بالدعارة وتقودها سارة أرونسون، ومهمتها أن توقع سارة شخص جمال باشا في حبها، بينما تتولى الفتيات مهمة التقرب لضباط جيوش العثمانيين والألمان، لكن الأهم هو التحكم في جمال باشا شخصيًا.
لم يكن جمال باشا شخصية سهلة، فهو أحد الباشوات الثلاثة الذين انقلبوا على عبدالحميد الثاني ثم دفعوا بالدولة العثمانية دفعًا إلى الحرب العالمية الأولى، وانتهى تشكيل الجنرالات الثلاثة بميلاد شخصية طلعت باشا الصدر الأعظم، وأنور باشا وزير الحربية، وجمال باشا وزير البحرية وقائد الجيش الرابع العثماني.
يؤكد المؤرخ التركي لطفي أكدوغان في كتابه «المرأة التي هدمت الإمبراطورية العثمانية»، أن جمال باشا وقع أسيرًا في حب سارة لجمالها وثقافتها فكانت عشيقته التي تذهب معه إلى أي مكان يتجه إليه.
نجحت سارة أرونسون في تسهيل شبكة نيلي التجسسية حيث وزعت الفتيات العاهرات على فنادق دمشق والقدس وبيروت للإيقاع بالضباط الألمان والأتراك في علاقات جنسية تساعدهن لاحقًا في الاستيلاء على خطط العمليات العسكرية العثمانية الألمانية ضد الإنجليز.
اقرأ أيضًا
الماسونية والدولة العثمانية .. من التغاضي حتى الاتحاد والترقي
شيء آخر ساعد سارة أرونسون وهو تصريح رسمي موقع من جمال باشا يسمح لها بالتجول داخل أراضي الدولة العثمانية لعمل الاختبارات العلمية اللازمة في الزراعة، وكان هذا التصريح عاملاً أساسيًا في التعرف على كل شيء في الجيش.
فيكتوريا .. هنا تُدَار نيلي التجسسية
كان فندق فيكتوريا السوري في دمشق هو مقر إقامة سارة أرونسون، ومثلما ازدحم بالفتيات اليهود ازدحم كذلك بالضباط الألمان والأتراك، ونشأت علاقة بين فتاة يهودية اسمها سيمون وضابط مقرب من جمال باشا، ونجحت سيمون في كتابة معلومات عن قوات تركيا في حملة ترعة القناة على مصر، ونجحت جهود سارة التجسسية في إلحاق الهزيمة بالجيش العثماني والألماني.
عملية أخرى نفذتها خلية نيلي التجسسية حين قامت سارة بتقديم عضوًا في شبكتها إلى جمال باشا بهدف أن يسافر إلى مصر في مهمة تجسس على الإنجليز، ووافق جمال باشا ومده بالمال، وكانت حقيقة هذا الجاسوس هو أنه سينقل معلومات صحيحة عن العثمانيين والألمان للإنجليز بينما يمده الإنجليز بمعلومات مضللة حتى لا ينكشف أمره.
قمة إنجاز خلية نيلي التجسسية كانت بلقاء سارة أرنسون مع الجنرال إدموند ألنبي «المعتمد البريطاني في مصر»، وخلال هذا الاجتماع أخذت سارة تعليمات تقضي بمنع وصول العثمانيين المتواجدين في مكة إلى فلسطين، وإرسال خطط تحركات القوات التركية المرتقبة إلى غزة، والتحضير لعملية اغتيال أنور باشا، وشن حملة دعائية تفيد بقيام فرنسا وانجلترا بقطع طريق أضنة اسكندرون.
اكتشاف الجاسوسة في الوقت الضائع ونهاية سارة وجمال
نجحت سارة وخليتها التجسسية من تنفيذ أغلب تعليمات أللنبي، وبدأ العثمانيين والألمان يشكون فيها بسبب الهزائم المفاجئة لهم في فلسطين، وخضعت الأحداث للتحقيقات السرية حتى نجح العثمانيين بعد فوات الألوان في كشف خلية نيلي عبر حمام زاجل كان يحمل رسالة مشفرة إلى الإنجليز.
جاءت نهاية الدولة العثمانية عندما خسرت سوريا وفلسطين وضُرِب الجيش الألماني، ومع اكتشاف خلية التجسس انتحرت سارة قبل محاكمتها.
أما جمال باشا فاتجه إلى اسطنبول سنة 1917 م وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى بـ 4 سنوات تمكن شاب أرميني يدعى اسطفان زاغكيان من قتل جمال باشا في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا سنة 1922 م.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال