حرب أكتوبر .. ذكريات تستعصي على النسيان (5–9) يوم 9 أكتوبر “خوذة أنقذتني”

مصطفى بدر
بطل من أبطال الدفاع الجوي في حرب أكتوبر المجيدة .. لواء أركان حرب سابق بالقوات المسلحة المصرية

يواصل موقع الميزان نشر يوميات حرب أكتوبر .. ذكريات تستعصي على النسيان 
 وهي مذكرات اللواء مصطفى بدر ضابط توجيه الكتيبة 431 التابعة للواء 98 صواريخ دفاع جوى، أثناء حرب أكتوبر.

فجر يوم 9 أكتوبر

ــ قائد القوات وقائد الفرقة وكل القوات يرسلوا ليكم الشكر على مجهودكم الرائع فى قتال العدو الجوى …و. ….و…..و……وعايزىنكم تتوجوا مجهودكم الرائع بإنكم تستعيدوا الموقف مع الكتائب اللي دخلت وجات من العمق .. فيه قواذف حتوصل لكم النهاردة …والأهم إنكم تحركوا الهوائيات وتعملوا انتشار في بورفؤاد لأن العدو أكيد سيعاود الهجوم .. وتمنياتي لكم بالتوفيق.

قال كلماته في عجالة وكأنه على قدر يغلي وركب سيارته ومعه المقدم أحمد بلال رئيس أركان اللواء.
غادر اللواء مجدي أحمد سليمان رئيس أركان الفرقة الموقع وقولوا لعين الشمس ماتحماشي أحسن حبيب القلب صابح ماشي.

ونظرت نظرة طويلة إلى منير أدرك معناها ونادى على الضباط:
ــ دا طبعًا أسهل من أي تحرك لأن الكباين اللي في الدشمة مش حتتحرك، الهوائيات والديازل واللي نقدر نحركه من القواذف وطبعًا كل عربيات النقل والتحميل وسنعمل انتشار في الشوارع الموازية للشارع.
مدرسة الراعى الصالح، نص سرية الرشاشات حينضم عليك يا مصطفى علشان الشكاير وربنا يوفقكم.

بدأ أطول يوم في تاريخ حياتي ..بدأ وأنا حزين على 12 ساعة محمية بالظلام فقدناها لأسباب لا أعلمها وحاولت أن أجد لها سببًا طوال أعوام عمري السابقة فلم أجد، وحتى يكون القارئ فى الصوره سأروي قليلاً عن الهوائيات:

تتكون كابينة الإرسال والاستقبال من الكابينة ووزنها 12 طن وتحمل هوائي مكون من ثلاثة أجزاء كل منها يزن طنًا وهي الشبكة وهوائي الزاوية وهوائي الاتجاه والذي يتصل به هوائي إرسال أوامر التوجيه، وبالقطع فإنه يتم استخدام ونش ومجموعة كبيرة من الأفراد لفك الهوائيات وتحميلها على المقاطير وهذه الكابينة محاطة بساتر دائري من شكاير الرمل لحمايتها من اكتومن شظايا القنابل، ولتثبيت الونش وفك الهوائيات لابد من إزاحة ساتر المدخل وهو عبارة عن سبعة آلاف شيكارة، يجب وضعها جانبًا بحيث لا تشكل إعاقة لحركة الونش أو المقاطير.

وكان مطلوبًا أيضا تحريك مولدات القوى ولها ساترين كل من أربعة آلاف شيكارة وأعطيت جنود سرىة الرشاشات لالفريد وارتينا حبشي لإزاحة ساتر الشكاير، وصعدت بقوة السرية وكل ضباطها إلى دشمة الهوائيات، كلنا واحد ضابط أو صف أو عسكري الهوائيات وقلت:
ــ دي مش أول مرة نفكها بس دي أهم مرة أول مانسمع الرتالة، يعني فيه هجوم جوي حنجري على الدشمة أو الحفر .. ومع الرتالة التانية حنطلع نكمل شغل.
وتوجهت بشخصي ورفعت أول شيكارة وناولتها لمن هو جواري ..وبدأ العمل وبدأ الساتر يتلاشى، إلى أن بدأت أصوات دانات المدافع ال37 مم والرشاشات تظهر وسمعنا الرتالة وجرى الكل ليأخذ ساترًا.

صباح يوم 9 أكتوبر

وصلنا في التدرىب وكثيرًا من التحركات التي نفذناها قبلاً أن نصف الكتيبة في قول تحرك كاملة بجميع سراياها وعرباتها في 34 دقيقة وكان الاحتراف في التدرىب أن وصلنا إلى إجراءات تنفذ أتوماتيكيًا دونما تفكير وذلك من كثرة التعود، وكنا نستغل الظلام في تجميع أكبر عدد من الأفراد للعمل مع الشكاير.

أما في النهار فلا استغناء عن سرية الرشاشات مصدر النيران والحماية الوحيد المتوفر لنا وعبرت طائرتين ميراج من فوق الكتيبة وطلقات الرشاشات والمدفعية تحاول على استحياء الاقتراب منهما، ولم يقوما بأي قصف للقنابل أو استخدام للصواريخ المثبتة تحت أجنحتها وقاما بالدوران شرقًا بمحاذاة ساحل البحر وعلى ما يبدو أنهم كانا فى مهمة استطلاعية.

وتسائلت مع نفسي:
ـــ أين قواتنا الجوية ؟ أين مقاتلاتنا ؟ أليس هناك احتياطي يوفر الحماية لبورسعيد لحين استعادة كفاءة الصواريخ؟
على ما يبدو أنهم يدخرونها لشيء آخر أو يخشون من فقدها، وكان ذلك يسبب مرارة في نفسي، فما بالكم بضباط وجنود القطاع والذين يحاصرون نقط قطع بورفؤاد، والطيران لم يتوقف عن مهاجمتهم بمجرد خروجنا من واجب العمليات، ماعلينا..

وبمجرد اختفاء الطائرتين استكملنا تحريك الشكاير وتحرك الونش ونجحنا في فك هوائي الزاوية وقطره ودفعه مع مولدات القوى إلى منطقة الانتشار وأثناء فك هوائي الاتجاه بدأت المدفعية في الاشتباك وضربت الرتالات وبدأت سرية الرشاشات في الاشتباك وهرولنا جميعا إلى الدشمة ولم يستطع سائق العربة الكراز الذي كان صاعدا على الرامب قاطرا مقطورة هوائي الاتجاه الفارغة أن يسيطر على العربة عندما رأى هرولة الأفراد إلى الدشمة فانحرف إلى الجانب الرملي من الرامب وانقلبت العربة على جانبها وخرج منها ليلحقنا.

وعندما رآني كان يبكى كالطفل وقال:
ـــ والله غصب عني .. أنا طفيت الماطور قبل ما أطلع منها … والنبي ما تزعل يافندي حنعدلها.
وكان شاباً طنطاويًا من عزبة ستوتة نسيت اسمه ومازالت ملامحه الشبابية أمامي وسمعنا صوت انفجار شديد وانفجارات أخرى مكتومة ورأيت صاروخًا ينفجر في القاذف القريب من باب الدشمة، وسقط جزء من ساتر الشكاير على المدخل، واستمرت سرية الرشاشات في الاشتباك.

عصر يوم 9 أكتوبر

استمرت الغارة طويلاً أو حسبنا ذلك، واستمرت الانفجارات المكتومة زمنًا وبانتهاء الغارة استكشفنا مكان العمل خوفًا من وجود قنابل زمنية وأبلغتنا سرية الرشاشات عن وجود بعضا منها ولكن على مسافة غير مؤثرة، ونجحت الغارة في هدفها فأصيب هوائي الاتجاه بكثير من الشظايا احالته وهو معلق في الونش إلى قطعة من الخردة.

وأصيبت كابينة التوزىع إصابة مباشرة تحتاج معها النزول للورشة، وحمدنا الله على عدم إصابة أحد وبقاء الونش صالحًا للعمل، وأمرت سائق الونش بتنزيل الهوائي المعطوب إلى أحد أجناب الرامب وجمعنا أكبر قدر من الأفراد وطلبت من سائق الونش تعليق الواير في جانب الكراز المعاكس للحانب التي قلبت عليه وركب السائق وأخذنا في زق للعربة اعتمادًا على ميل الدشمة واعتدلت بوجهها ودارت وعاد قاطرا الشبكة وفي خلال عشرة دقائق كانت الهوائيات والكابينة متوجهين للانتشار وهكذا خسرنا كابينة التوزيع وهوائي الاتجاه.

أصبحنا غير قادرين على الاشتباك أو استعادة الموقف …ما لم تدبر هذه المعدات وللأسف اكتشف مراد أن كابل مرسل الأوامر الذي يحمل أوامر الصاروخ إلى الهوائي قد تمزق نتيجة إصابته بشظية وأبلغ منير الخسائر الجدىدة لقيادة اللواء أن الهوائي والكابل موجودين في الاحتياطي وقيادة الدفاع الجوي.

إقرأ أيضا

الرجل الثاني .. اغتيال صالح العاروري ومصير الصراع

أرسلت كابينة التوزيع ويحتمل وصولها قبل أول ضوء وتأجل استعادة الموقف يومًا كاملاً وتم وصول أربعة قواذف من الكتيبة 434 وونش ضخم من هيئة قناة السويس لاسخراج قواذفنا المدمرة، وعند استخراج القاذف الأخير تم اكتشاف جثة شهيد بدأت في التحلل وتبين أنها لمجند مستجد فى سرية النيران وصل الكتية يوم 3 أكتوبر، وآسف أن ذاكرتي لم تسعفني لذكر اسمه وقبل منتصف الليل كان هناك أربعة قواذف صالحة حول الدشمة، وبذل مجدي يسري ورحال سرية النيران مجهودًا كبيرًا في تغطيتهم بشباك التمويه، وأصبح شكل الموقع يوحي بعدم الحياة.

مساء يوم 9 أكتوبر

بلغ الإجهاد مداه وكان الجميع مرهقًا ومرهقًا للغاية، وأحدث تدمير الهوائي وكابينة التوزيع أثر نفسي سلبي، نفسية المقاتل متى بدأ القتال تدور صعودًا وهبوطًا مع قدرته على القتال.

دفعني ذلك إلى الجلوس مع السرية وفك طلاسم بعض الوجوه العبوسة، لايمكنك تنفيذ ذلك دون إدارة حوار، وبدأت بالانجازات وأخذت اسأل:
ـــ عملنا كام اشتباك ؟ أطلقنا كام صاروخ ؟ دمرنا كام طيارة ؟ تفتكروا دول لو اتسابوا كانوا عملوا ايه ؟ اترمى علينا أد إيه قنابل ؟ كام واحد مات ؟ كام واحد اتجرح ؟ شايفين ربنا واقف معانا إزاى ؟

وكان بينهم مجموعة من الجامعيين الذين ساعدوا إلى حد كبير في إزالة الإرهاق النفسي للمتعبين:
ـــ حنعمل إيه بكرة ؟
ورد علي عبد الحي ابن أجا وهو عامل هوائيات:
ـــ هوه احنا ورانا غير الشكاير
وضحك الجميع، مين يرد عليه ! اسماعيل عبدالمبدي بتاع الاحداثيات وقال:
ـــ والنبي لولا الشكاير دي لكنا في خبر كان.
أما ناصف عامل إنتاج الأوامر قال:
ـــ يا ريت فيه أدها 3 مرات، هوه إحنا يهمنا شكاير !! أهى علقة تفوت وما حد يموت.

واستودعتهم الله وهم يضحكون بعدما بينت المهام الرئيسية للغد، وألقيت بنفسي على السرير وتذكرت أني ما زلت مرتديًا للخوذة وبذلت جهدًا مضنيًا لخلعها وأنا مسطح ووضعتها بجوار السرير، وعلى مايبدو أنه أغمى عليّ من الارهاق وفيما يشبه الحلم سمعت صوت المدفعية ال م.ط بكثافة، فقلت لنفسي الطائرات ما زالت بعيدة، وعندما سمعت الرشاشات جلست على السرير ووضعت الخوذة على رأسي وإذا بصوت رجة شديدة وباب الحجرة يطير من مكانه ويرشق في الخوذة التي حمتني من القتل، وتبين أن طائرتين هاجمتا الموقع الشبه خالي وكأنهم وجهوا قنابلهم إلى إحداثي معين بصرف النظر عن محتواه.