“ديك الجن”.. شاعر فصيح وعاشق مريع
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
شهد العصر العباسي طفرة عظيمة وتطور هائل في الشعر، حيث يدين الأدب العربي وثقافتنا بالامتنان الشديد لشعراء العصر العباسي مثل ديك الجن والمتنبي والبحتري والحمداني والمعري، على تلك الحركة العظيمة التي أحدثوها، واستطاعوا من خلالها إبراز جمال اللغة العربية والتلاعب بكلماتها بأسلوب سهل ممتنع، صعب تقليده، غير أن سيرة ديك الجن لم تكن بنفس شهرة أبناء جيله
من هو ديك الجن
اسمه الحقيقي “عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب الحمصي”، حصل على لقب ديك الجن لأسباب عديدة، فمثلًا كانت عيناه شديدتي خضار اللون أشبه بعيون الديك، وكان مثل الجن في تحركاته وتنقلاته، كثير الحركة لا يحب الجلوس في المنزل، كمان كان مثل الجن في شعره عنده قدرة رهيبة على التلون والتشكل في كلماته، ويتحرك بسلاسه بين الهجاء والرثاء والغزل، ووصلت صيته لمصر والعراق، وتمنى الكثير من الشعراء رؤيته، وذهب له الشاعر الكبير أبو نواس وقال له:(شعرك أفتن العراق).
اقرأ أيضًا
قصة الأرقام العربية من الألف إلى الياء
أصول ديك الجن كانت من العجم، ولكن أسلم جدوده وكان يكره العرب ويرفض تفاخرهم بأصولهم، وفي هجاءه للعرب قال:(ما للعرب علينا فضلٌ، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم، وأسلمنا كما أسلموا)، تربى ديك الجن بين أروقة المساجد والكتاتيب، وحفظ القرآن الكريم كاملًا، وتعلم أصول اللغة العربية وأتقنها، ولكنه انحرف عن ذلك الطريق في الكبر، وغرق في بحور الخمر والسهر.
عشقه لـ ورد بنت النعامة
تعود ديك الجن على الخروج مع صديقه أبو بكر في نزهات ليلية للحقول والبساتين حولهما، وذات يوم دخلوا بستان أحد الأديرة المسيحية، وشاهدوا مجموعة من الفتيات الجميلات يحتفلن بمناسبة دينية، كانت كل فتاة منهن تنشد شعر تحبه، ظل الرجلان يراقبون في صمت حتى جاء الدور على فتاة جميلة للغاية، وأنشدت إحدى قصائد ديك الجن الذي دخل في حالة صدمة من جمالها وفصاحتها، فلم يتمالك نفسه وظهر أمام الفتيات، اللاتي شعرن بالفزع ونادوا على أهل الدير، ولكنه أعطاهم الأمان وسأل الفتاة عن صاحب الأبيات التي أنشدتها قبل لحظات، فأخبرته أن الجميع حتى الأطفال يعلمون أن هذه الأبيات لديك الجن، فأخبرها أنه هو نفسه ديك الجن، وبالطبع قوبل كلامه بالسخرية ولم تصدقه آيًا منهن، وعندما أصر على كلامه طلبت منه أن يرتجل لها بعض الأبيات فقال لها:(قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام، كي استريح وتنطفئ نار تؤجج في العظام، دنف تقلبه الأكف على فراش من سقام، أما أنا فكما علمتِ، فهل لوصلك من دوام؟)، ضحكت الفتاة وأخبرته أن أي شخص يستطيع قول تلك الأبيات وطلبت منه تغيير القافية، فقال لها:(قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد، كي استريح وتنطفئ نار تؤجج في الفؤاد، دنف تقلبه الأكف على فراش من قتاد، أما أنا فكما علمتِ، فهل لوصلك من معاد؟).
سألها هل اقتنعت؟، فقالت لا، قال لها:(قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع، كي استريح وتنطفئ نار تؤجج في الضلوع، دنف تقلبه الأكف علي فراش من دموع، أما انا فكما علمتِ، فهل لوصلك من رجوع؟)، ولكنها لم تقتنع أيضًا فعاد وقال لها:(قولي لطيفك ينثني وقت الوسن، كي استريح وتنطفي نار تأجج في البدن، دنف تقلبه الأكف علي فراش من شجن، أما أنا فكما علمتِ، فهل لوصلك من ثمن؟).
وقتها صدقت كلامه وسألها عن اسمها فأخبرته أنها ورد بنت النعامة، ومنذ ذلك الوقت صارا يلتقيان بشكل شبه يومي في حديقة الدير ووقعت ورد في غرامه وهو عشقها، وانتشرت قصتهما في المدينة، فطلب يدها للزواج واعلنت ورد إسلامها وعاشا في سعادة متناهية، ولكن القدر كان له رأي آخر.
مقتل ورد
كان لديك الجن ابن عم اسمه أبو الطيب، وقع أبو الطيب في غرام ورد من أول نظرة وحاول كثيرًا معها ولكنها كانت تصده دائمًا وخافت من إخبار زوجها بالأمر، وفي يوم ذهب لها أبو الطيب أثناء سفر ديك الجن، فقامت بطرده واسمعته أشنع الألفاظ وهددته أنها سوف تخبر زوجها عند عودته، هنا قرر أبو الطيب أن ينتقم منها ووضع خطته الشريرة، انتظر قرب ديك الجن من حمص وذهب لصديقه أبو بكر وأخبره أن ديك الجن مات، وطلب منه أن يذهب إلى ورد ليخبرها، وذهب هو لمقابلة ابن عمه على الطريق، واخبره أن صديق عمره قد خانه مع زوجته، وأن حمص كلها تتحدث عنه، أخذ ديك الجن فرسه وذهب مُسرعًا بإتجاه بيته، وبالفعل وجد صديقه هناك فقام بقطع رأسه على الفور، دون أن يستمع له، ورأى زوجته بعدها فقتلها هي الأخرى قبل أن تنطق بحرف واحد، ثم جلس على ركبتيه وحضنها وقال وهو يبكي:(رويت من دمها الثرى، ولطالما روى الهوى شفتي من شفتيها، قد بات سيفي في مجال وشاحها، ومدامعي تجري على خديها، فوحق نعليها وما وطئ الحصي شيء أعز علي من نعليها، ما كان قتيلها لأني لم أكن أبكي إذا سقط الذباب عليها، لكن ضننت على العيون بحسنها، وأنفت من نظر الحسود عليها).
الحقيقة
دفن ديك الجن زوجته وصديقه، وعاد مرة أخرى لحياة السهر والخمر، ومرت السنوات، كان أبو الطيب على فراش الموت وطلب رؤية ديك الجن، وحكى له الحقيقة كاملة، ودخل ديك الجن في حالة صدمة وذهب إلى قبورهم للمرة الأولى، ومنذ ذلك الوقت لم يفارق القبور إلا للنوم، واعتزل المجالس والشعراء، وظل في حالة يرثى لها حتى وافته المنية عام ٢٣٦هـ، وهو يجلس بين قبري محبوبته وصديق عمره.
الكاتب
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
مقال رائع أمتع الروح وأحزن الفؤاد