فنان الشعب سيد درويش (4) المغني في بلاط السياسة والساسة “عباس قبل سعد”
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
انتهينا في الحلقة السابقة عند دور الأغنية الجماعية في تكوين شخصية فنان الشعب سيد درويش ، وكيف أكسبته الخبرة ومنحته العوامل النفسية التي جعلته يشعر بمعاناة طبقة العمال، ومن ثم التعبير عنهم بطريقته الخاصة المفعمة بالتأثر والإحساس بهم، كذلك ما أثرته به من إحساس بدور البطانة في الغناء الجماعي، وكلها مكتسبات أضافت لسيد درويش الكثير من العوامل التي ساعدته على خوض الدور الذي قام به في حياته، وبالأحري شكلت شخصية سيد التي تميز بها والتي عرفناه وعرفه الوطن العربي ككل بها.
اقرأ أيضًا
سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (1) أجواء اكتشاف الموهبة
أعتقد أعزائي القراء، أنه من خلال ما تم سرده في الحلقات السابقة قد أدركتم دور الوقائع التي لم يكن مرتبا لها، بما يندرج تحت مسمى حسن الحظ، في تطور فن الشيخ سيد درويش وعلو مكانته، فمنذ الصغر لعبت الأقدار والظروف التي توافرت بالمصادفة دورا كبيرا في اكتشاف شخصية سيد درويش الفنية، فتارة يكتشفه مدرس له، وتارة يوضع في اختبار تلاوة القرآن الكريم لتغيب مقريء السورة بالمسجد، وتارة يلحظ المقاول أثر غنائه للعمال، ومن جديد تشاء الظروف أثناء اندماج سيد درويش بالغناء للعمال أن يستمع إليه الأخوان سليم عطا الله وأمين عطا الله أثناء جلوسهم على قهوة قريبة من موقع العمل الذي كان يلاحظ سيد عماله، وما أن تسمعا لفنه وأنصتا حتى انبهروا به وبأدائه وصوته العذب، فعرضا عليه أن يعمل معهما بفرقتهما الجوالة، وكانت في ذلك الوقت ” أي الفرقة” تستعد للسفر إلى بلاد الشام لتقديم عروضها هناك، وبالفعل استجاب سيد لهذا العرض دون تفكير، خاصة وأنه في أشد الحاجة لمصدر دخل يستطيع الاعتماد عليه في إعالة أسرته، وها هو المصدر قد أتاه وفق هواه، مصدر دخل قيمته جيدة وفي مجاله الذي يحبه.
ذائقة فنان الشعب سيد درويش الموسيقية
قبل أن نتحدث عن رحلات سيد درويش إلى بلاد الشام والبلاد العربية الأخرى، نتطرق إلى الحديث قليلا عن ذائقة سيد الموسيقية رغم صغر سنه، فسيد درويش لم يكن ليعجبه كل ما يسمع ولا يرضيه التقليدي من الألحان، فقد حكى أحد أصدقاء صباه، أنه كان يضيق كل الضيق بما كان يسمع وكان يغضب ويثور على ما لا يعجبه، حتى أنه عندما سئل عن سر هذا الانفعال كان يقول “كنت أغضب وأثور لأجل ما كان يصوره لي ذلك الشيء وما كان يشعرني به، فكنت أشعر أنني أستمع إلى شيء مغلول مقيد، مليء بالتكلف، لم يبن على السجية والطبيعة الحرة التي خلق الله الفنان عليها”.
كذلك كان الشيخ سيد درويش ينفر كل النفور من فكرة الدروس الخصوصية، لذلك لم يكن له طوال حياته تلميذا يجلس معه جلسه المعلم بمعناها التقليدي؛ لأنه كان معتقدا بأن ذلك من خصائص محترفي الموسيقى، الذين كانوا يجعلون لكل بضاعة ثمنها كما يفعل البقالون والبائعون، فكان ثمن الدور عندهم أغلى من ثمن الطقطوقة وهكذا.
رحلات سيد درويش إلى بلاد الشام والبلاد العربية
سافر الشيخ سيد درويش مع فرقة سليم وأمين عطا الله مرتين إلى بلاد الشام، المرة الأولى كانت عام 1909م، والمرة الثانية كانت عام 1912م، ويقال أن المرة الثانية كانت بصحبة فرقة جورج أبيض.
على أية حال، فالرحلة الأولى لسيد (1909م) لم تكن رحلة موفقة على صعيد الغناء، نظرا لسبق وجود الشيخ سلامة حجازي قبل رحلة سيد ( يمكنك مراجعة قصة الشيخ سلامة حجازي في المقالات السابقة)، ولكن مع كونها تجربة لم تحظ بالنجاح الكامل على صعيد الغناء، إلا أنها أضافت إليه لونا جديدا من الفن، فقد أضطر سيد لمزاولة فن التمثيل، فأكسبه ذلك خبرة في الأداء المسرحي كممثل، ليتبلور ذلك فيما بعد كموهبة جديدة ساعدته وأفادته كثيرا حين بدأ نشاطه الخاص في التلحين المسرحي.
أما الرحلة الثانية عام 1912م، فقد كانت أكثر نجاحا وإفادة لسيد على صعيد الغناء والموسيقى، وبكل تأكيد ساعدته على استكمال بناء شخصيته الفنية، ذلك أن سيد قد التقى في هذه الرحلة بالكثير من الموسيقيين الكبار أصحاب السبق في هذا الفن، كالأستاذ الكبير( الملا عثمان الموصلي)، والشيخ علي الدرويش، والشيخ صالح الجذبة، وغيرهم ممن أخذ عنهم سيد درويش ضروب وموازين وايقاعات موسيقية كثيرة، كذلك أخذ عنهم موشحات عربية قديمة وحفظها، كذلك حفظ الكثير من أغانيهم وأتقنها واستفاد من طريقة صياغتها، ليعود بعد كل ذلك إلى مصر محملا بمخزون وفير من العلوم الموسيقية والأدبية.
زار سيد درويش تقريبا كل أنحاء الشام والعراق والأناضول وتركيا، والكثير من البلاد العربية فتشبع بألوان موسيقية كثيرة ومقامات لم تكن معروفة لدي المصريين، فتجلت معالم تلك الألوان وبدا أثر ما جمعه وتعلمه في الألحان التي وضعها لمجموعة من الأناشيد الوطنية والسلامات التي كانت تقدم في بداية ونهاية الحفلات كتحية لجمهور المستمعين والحكام .
سيد درويش والخديوي عباس حلمي الثاني
قبل عزل الخديوي عباس حلمي الثاني من قبل سلطات الاستعمار عام 1914م، تقدم إليه الشيخ سيد درويش بطلب يلتمس فيه منه أن يتم ترشيحه لبعثة فنية خارج البلاد كي يكمل دراسته الموسيقية على نفقة الحكومة المصرية، وأرفق بهذا الطلب دور “عواطفك دي أشهر من نار”، ونظرا لحظر سلطات الإحتلال ذكر اسم الخديوي في الأغاني بأي صورة من الصور آنذاك، فقد تحايل الشيخ سيد درويش بمعاونة الشيخ يونس القاضي على كلمات الدور لتكون حروف البداية لكل شطر منه عبارة عن حروف ( عباس حلمي خديوي مصر)، ولكن لم يستجب الخديوي عباس حلمي الثاني لطلبه واكتفى بمنحه مكافأة مالية.
بيان ذلك من كلمات الدور:
عباس: عواطفك دي أشهر من نار، بس اشمعنى جفيتنى يا قلبك، أنت اللطف وليه أحتار، سيد الكل أنا طوع أوامرك.
حلمي: حالى صبح لم يرضى حبيب، لوم الناس زودنى لهيب، ماقولش أن الوصل قريب، يا مليكى والأمر لربك.
خديوي: خايف أحكى لمين أشكيك، دبرنى علـشان أرضيك، يمكنى دايماً أواسيك، والعازل مايكونش شريك، يخطر لى دايماً مرآك.
مصر: من كثرة حبى لعلاك، صبحنى هجرك وجفاك، رسم الظل يا نعم مليك.
يعتبر تلحين هذا الدور هو البداية الحقيقية لعبقرية فنان الشعب سيد درويش، فهو أول أدواره التي لحنها قبل 1914م، وسأرفق لكم أعزائي القراء رابطا للاستماع إليه (اسطوانة ميشيان سجلت تقريبا عام 1916م) ، وبالتدقيق في هذا الدور، سنلاحظ نضج جمله الموسيقية التي عبرت بدورها عن نضج موهبة سيد في التلحين، والتي تجلت كذلك بوضوح عندما صاغ الشيخ سيد درويش آهات دور في شرع مين، والذي لحنه على مقام الزنجران الذي مثل أول تجربة للتلحين على هذا المقام في الغناء المصري، ويتضح ذلك من كلام مقدم اسطوانة “في شرع مين” حيث يقول: ” نغمة جديدة للشيخ سيد درويش”.
وإلى هنا أعزائي القراء نصل لنهاية الحلقة الرابعة من قصة الشيخ سيد درويش، على أن نكمل تلك المسيرة المليئة بالنجاح والتفرد في حلقات قادمة أسعد بسردها لكم.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال