شريط في قلب الليل و ذروة تألق الأغنية البديلة
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
تمهيد:
في ثمانينات القرن الماضي ظهر مصطلح الأغنية البديلة الذي كان تعريفًا للأغنية التي حلت كبديل للأغنية الكلاسيكية بكل قوالبها المعروفة، تنامت تلك الأغنية وتشكلت على يد فرسان الرهان من جيل الوسط الغنائي متمثلًا في أصوات “على الحجار، محمد منير و عمر فتحي” حيث حملوا على عاتقهم إرساء قواعد تلك الموجة الغنائية الجديدة في ظل انشغال بعض الأصوات المنافسة مثل “محرم فؤاد ، هاني شاكر، محمد ثروت” في محاولات وراثة عرش الأغنية الكلاسيكية التي بدأت في لملمة أوراقها من مشهد الغناء الرسمي.
حقق عمر فتحي جماهيرية ضخمة في فترة زمنية قصيرة ثم رحل مبكرًا تاركًا إرثًا فنيًا لم ينل التقدير الكافي حتى الآن، نجح منير في تجنيب نفسه الدخول في منافسة أو مقارنة مع أي مشروع غنائي أخر حيث شكل مع فرقة يحيى خليل ثورة غنائية ذات طبيعة خاصة جدًا نابعة من مشروعه المختلف، بدأت تلك الثورة في شريط شبابيك الذي شكل بداية ثورة الأغنية الجديدة “البديلة” في الثمانينات وبالتزامن معه شق على الحجار لنفسه طريقًا مهمًا حقق فيه بعض الطفرات الفنية وضحت في شرائط “الأحلام – اعذريني – متصدقيش” حتى وصل إلى ذروة تألقه الفني عندما أطلق شريط ” في قلب الليل” عام 1986 حيث مثل ثورته الخاصة جدًا في جيل الوسط وحقبة الأغنية البديلة.
تفاصيل الشريط:
احتوى شريط “في قلب الليل” على ست أغنيات فقط على غير العادة في تلك الفترة، هذا الأمر أعطاه قوة وتميز حيث خلى من الأغاني الحشو الخفيفة وتنافست الست أغنيات مع بعضها في جودتها الفنية واختلافها عن السائد والشائع في الغناء في فترة صدورها.
فريق عمل الشريط ضم أسماء هامة جدًا كانت لها ايادي بيضاء على الأغنية البديلة وعلى الأغنية المصرية عمومًا على رأسهم القطب الكبير مولانا فؤاد حداد مع الشاعران “عصام عبد الله و جمال بخيت” وواصل الحجار الاستعانة بأخيه الأصغر الملحن الجميل “أحمد الحجار” مع تعاون وحيد مع الملحن “حسين فوزي” وعودة مرة أخرى للتعاون مع مودي الإمام ملحنًا وموزعًا، وظهور مميز للموزع فتحي سلامة الذي كان بيبني مسيرته الشخصية خارج فرقة يحيى خليل الذي كان أحد أهم أعمدتها، مع استعادة لقصيدة “جفنه علم الغزل” لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حيث لم ينسى الحجار أن يشبع شغفه بإعادة غناء بعض الكلاسيكيات العظيمة مثلما فعل من قبل في رباعيات جاهين و داري العيون للمطرب والملحن الكبير محمد فوزي.
أغنيات الشريط :
“تسأليني”
كلمات جمال بخيت تتبنى أحد صيغ الأغنية البديلة في دمج عدة مضامين في قالب واحد وأشهرها بالطبع “الوطن والحبيبة” الصياغة جاءت غير مباشرة يوجه فيها لومًا وعتابًا يسهل إسقاطها على الوطن الذي قرر أن يصم آذانه عن أبنائه مفضلًا الارتماء في حضن العدو.
قيل أن الأغنية كانت رد فعل من جمال بخيت يعلن فيها رفضه لاتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع العدو ، يظهر هذا داخل المقاطع وأن لم يصرح بذلك بشكل مباشرة لكن من نهاية المقطع الأول يتضح ماذا كان يقصد “لولا مرة فتحتي نني – للي خاني واستباحك”
الأغنية كانت شكلًا جديدًا في الغناء السياسي في مصر مع مفردات نراها لأول مرة “استباحك – اجتياحك” وهي ميزة تفرد بها جيل الوسط من الشعراء حيث كان الوطن والسياسة جزًء هامًا من تجاربهم الشعرية.
لحن أحمد الحجار على مقام الحجاز بجمل شديدة التماهي مع كلمات الأغنية، بناء اللحن متماسك لم يجنح إلى التطريب والاعتماد على إمكانيات صوت على الحجار أكثر من قدرته على التعبير عن مضمون الكلمات وهي سمة سنراها كثيرًا في هذا الشريط تحديدًا.
توزيع مودي الإمام أخذ اللحن إلى منطقة جديدة تمامًا في دمج ما بين قالبي الروك والبوب، إيقاع قوي جدًا وجمل لحنية خشنة من الكيبورد والديسترشن جيتار مع تنويع في جمل الفاصل الموسيقي وتسليمات الغناء حيث أخرج الأغنية بصورة شبه مكتملة جدًا تعكس رؤية مودي الإمام التي غيرت كثيرًا في شكل الأغنية المصرية في الثمانينات.
“في قلب الليل”
سبق أن افردت مقالًا كاملًا عن تلك الأغنية البديعة التي وصفتها بأنها أقصى تطور وصلت إليه الأغنية البديلة،كلمات عصام عبد الله هي بطل الأغنية الأول حيث وصل إلى نقطة تطور لم يصل إليها شاعر قبله أو بعده أيضًا، فيلم سينمائي قصير تدور أحداثه في قلب الليل حول شخص ألقت به الظروف أمام فتاة في ليلة باردة ثم اختفت فجأة لتظهر مرة أخرى وما كان منه إلا أن تركها ورحل.
سرد عصام عبد الله بديع جدًا بمفردات وصور لم نراها في أغنية مصرية بتكنيك كتابة ساحر يملك شفرته وحده، موسيقى مودي الإمام كانت شريط الصوت أو الموسيقى التصويرية المصاحبة لأحداث هذا الفيلم القصير الذي صاغه عصام باقتدار في صورة أغنية، تماهي شديد بين الكلمات وبين جمل اللحن التي كانت تروي الأحداث استخدام متقن للكيبورد توصيف لصوت الخيل واستخدام إيقاع لاهث يشبه ركض الخيل، فواصل موسيقية قصيرة تتغير قفلاته على حسب لحن الكوبليهات، جملة فاصل رئيسية قوية جدًا تظهر في أخر الأغنية، أداء متزن من على الحجار بصوته الرخيم الذي يناسب طبيعة اللحن حيث كان راوي القصة دون أن افتعال أو مبالغة، الأغنية لم تنل تقديرًا كافيًا وقت صدورها وحققت نجاحًا كبيرًا بعد أن صورها التليفزيون المصري منتصف التسعينات و يعتبرها الكثيرون من عشاق على الحجار درة التاج في أعماله ويعاد اكتشافها كل فترة من الأجيال الجديدة
“جفنه علم الغزل”
لا ينسى على الحجار بداياته التطريبية جدًا ويعيد تقديم لنا واحدة من أحلى قصائد الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب “جفنه علم الغزل” التي سبق وقدمها في فيلم “الوردة البيضاء 1933”.
لن أدخل في جدال اقتباس عبد الوهاب لحن الأغنية من المغني الكوبي “أنطونيو ماشين” ودعونا نستمتع بأداء على الحجار الذي يثبت أن هذا الجيل لم تنقطع علاقته بالطرب الأصيل وأنه قادر على أداء أي لحن بنفس القوة مع منحه شخصية جديدة تمامًا.
اختيار مودي الإمام لتوزيع الأغنية كان مغامرة جريئة جدًا، مودي اضفى سحرًا على الأغنية بالمقدمة العظيمة التي صاغها ومن المرات القليلة جدًا التي لا يستخدم فيها طريقته المعتادة في التنفيذ “اوركسترا الفرد الواحد” فنجد بجانب الكيبورد والبيانو خط وتريات عظيم جدًا مع صولوهات من القانون والتشيللو، تفوق مودي الإمام في منح القصيدة رؤية جديدة جعلت عبد الوهاب نفسه يشيد بما قدمه مع أداء عظيم من على الحجار وتمكن من طبقات صوته خصوصًا في الموال.
عندما ظهرت القصيدة لأول مرة بصوت محمد عبد الوهاب كانت فتحًا موسيقيًا جديدًا منه ربط فيه بين الشرق والغرب وعندما أعاد تقديمها على الحجار اضفى عليها من روح الموجة الجديدة التي كانت تسير على نفس درب تجديد شكل الأغنية المصرية.
“بحبك”
كلمات جمال بخيت تقطر رومانسية وعذوبة مع كم صور وأخيلة تؤسس لقواعد جديدة في الأغنية الرومانسية دشنها جيل الوسط الشعري والذي كان يكتب الأغنية على هيئة قصيدة.
المفردات والصور قوية جدًا دون مبالغة أو افتعال”أحبك وانطلق عصفور واسرح في الهوى والنور واملى الكون بأغانيا ولو كان الجناح مكسور” “أحبك تستكين الريح في قلبي والأماني تصيح بحبي واعشق التصريح ودربي في الضباب مغمور – أحبك تبتدي البدايات تاخدني ضحكتك بالذات تعيدني قلب وروح وقلب وذات تزيدني كشف للمستور – أحبك ضي روحي يبان واعبر ضلمة الحرمان واهجر غابة الأحزان و احقق حلمنا المسحور”
لحن أحمد الحجار بدأ على مقام الحجاز في المذهب وانتقل إلى مقام الكرد في المقاطع، بناء اللحن جيد وأن عابه هو مسحة الحزن التي طغت على الكلمات الرومانسية جدًا مع بعض الافتعال في أداء على الحجار، توزيع الأغنية كان أقوى عناصر الأغنية من فتحي سلامة الذي لم يتبنى قالبًا موسيقيًا بعينه.
بداية الأغنية من الكيبورد بكوردات شديدة العذوبة والرومانسية مع همهمات على الحجار على مقام الحجار تزحف خلفها الوتريات بشكل تصاعدي سلمت الغناء بسلاسة مع إيقاع شرقي يصاحب الغناء ووتريات قوية جدًا مع همهمات على الحجار في الفواصل الموسيقية، الأغنية أصبحت الآن من كلاسيكيات على الحجار المحببة إلى جمهوره ومن الأغنيات التي يعشقها رفيق دربه محمد منير.
“حرمًا يا سيدي”
يتلاعب مولانا فؤاد حداد بالقوافي والمفردات لينتج لنا في النهاية واحدة من أحلى الأغاني الصوفية في تاريخ الغناء المصري، صياغة تقترب من الفصحى بكلمات شديدة القوة تتجول بين أهم الأماكن الدينية المحببة إلى قلوب المصريين.
لحن حسين فوزي قوي جدًا بتنوع مقامي ثري تنقل فيه بين عدة مقامات موسيقية حيث بدأ على مقام الحجاز في المذهب ثم انتقل إلى النهاوند في المقطع الأول “ثم القلب استخار” مع الانتقال إلى جنس الراست في مقطع “وقد اجتزنا إلى شيخ العرب” ويعود إلى المقام الرئيسي الحجاز مع قفله المقطع، في المقطع الثاني “وسجدنا في براح السيدة نفيسة ” حيث انتقل إلى مقام راحة الأرواح مع لمسة في الراست في مقطع “وبدمع من سماح قربت إلى السماء” ثم يعود إلى الحجاز مع قفلة المقطع في المقطع الأخير “وبدمعي فهو عيني” انتقل إلى مقام العجم، هذا الثراء الموسيقي جدًا كان لابد له من موزع موسيقي قادر على فهم وهضم تلك التنقلات وأن يتعامل معها دون استسهال، توزيع فتحي سلامة لم يتبنى خطًا هارمونيًا واحد حيث تنوع بتنوع المقامات خصوصًا في الفواصل الموسيقية وتسليمات الغناء، مع استخدام الالات موسيقية حية ما بين شرقية وغربية ووضع لمساته الخاصة بخطوط لحنية موازية لـ لحن الأغنية.
“روحي فيكي تروح”
بلهجة بيضاء جمعت ما بين عدة لهجات ممتزجة مع الفصحى، تأتي كلمات عصام عبد الله، تلك الخلطة الشعرية وتكنيك الصياغة لا يجرؤ على فعله سواه فقط مع قاموس مفردات وصور شعرية لم تستخدم من قبل في أغنية مصرية،
، “قبل اما تدب خطاكي بدوب واتحرق م الشوق الملهوب واتوجع كالفهد المذبوح – وما أن يتبدالي محياكي وادوق الرحمة في نبع هواكي بساتين الفردوس تلوح – روحي فيكي تروح – دوح جميل الروح ” “حسبك شتيتي العقل أشتات وجنيتي نجوم السماوات وعديتي الحسن المسموح ان قلتي وداع انقسم اتنين فارس متمرد ع القوانين وكسير مسلم ما بيبوح” ولهان في موجاتك سبحان محاوطني المي و ظمآن رويني للشوق ينوح روحينا من بين الأرواح بيتلاقوا صافيين ملاح بفردوس العشق المفتوح”
هذا القالب الشعري غير الملتزم ببنية تقليدية من مذهب وكوبليهات كان جديدًا جدًا على الأغنية المصرية ويثبت أن عصام عبد الله كان متفردًا في كل شئ سواء أفكاره أو معالجته للموضوعات بتكنيك كتابة يحمل أسراره هو وحده فقط.
الكلمات صيغت على لحن أمازيغي لم يكن يعرف من هو ملحنه لذا لم يظهر اسمه على غلاف الشريط الأصلي وبعد ذلك عرف الحجار أنه يخص الملحن والمطرب الجزائري القدير “ايدير” وهو مأخوذ من أغنية “Zwit rwit” وهو واحد من الألحان الشهيرة جدًا في شمال أفريقيا حيث أعاد غنائه الكثير أشهرهم الشاب خالد في أغنية “الهاربة وين”
اللحن على مقام المانير “النهاوند” وبرغم جمل اللحن القصيرة جدًا إلا أنه يعلق في الأذان بسهولة جدًا، يحسب لكامل الشريف أنه تناول اللحن بطريقة مختلفة جدًا عن الأغنية الأصلية واضفى عليه شخصية جديدة تمامًا، تألق فيه عبد الله حلمي كعازف للكولة مع جمال لطفي على العود والقانون مع ظهور متميز للموسيقار عمر خيرت الذي قام بالعزف على اّلة الدرامز وأداء غير مفتعل من على الحجار كل تلك العوامل أنتجت لنا في النهاية واحدة من أحلى أغنيات على الحجار على الإطلاق وكانت مسك الختام لهذا الشريط المتفرد جدًا.
ذروة ثورة الأغنية البديلة.
ظهر شريط في قلب الليل في فترة كانت سوق الإنتاج الغنائي يشهد انتعاشة واضحة، جيل الوسط يقدم أغنيته البديلة بمفاهيمها العميقة وتناولها الموسيقي المختلف، وجيل الأغنية الشبابية لازال يتلمس الطريق نحو التعبير عن نفسه وسط سيطرة شبه كاملة لجيل الوسط، ومثلما كان شريط شبابيك ل هو بداية ثورة الأغنية البديلة كان شريط في قلب الليل هو ذروة تلك الثورة.
شريط شبابيك : صك الغفران الذي محا كل خطايا محمد منير
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال