1٬107 مشاهدة
فنان الشعب سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (8): هل كان يضع كلمات أغانيه ؟
نستكمل الحديث حول رحلة فنان الشعب سيد درويش ، والحقيقة أن الحديث عن فن سيد درويش يكاد لا ينتهي، فما أن يأخذنا الحكي في اتجاه حتى نكتشف جانبا آخر من حياة هذا الرجل جدير بإلقاء الضوء عليه، سر ما في فن هذا الرجل يدعو للتعجب والاستغراب، هذا الرجل الذي لم يتلقى من التعليم الأكاديمي للموسيقى سوى القليل في الكلية الحرة، وكل ما وصل إليه من براعة وإتقان إنما كان بالاكتساب الشخصي إما عن طريق استماعه لكبار مشايخ ومطربي عصره وإما من قرائته الحرة في كتب الموسيقى وإما من حفظه عن الموسيقيين الذين عاصرهم أو التقى بهم في رحلاته خارج البلاد.
روى عن أحد سكان حي كوم الدكة الذين عاصروه أنه بدأ يتعلم الموسيقى من كتاب قديم اشتراه بائع يعرض كتبه القديمة على رصيف الشارع، وبينما كان سيد درويش يتفحص هذه المكتبة الفقيرة ليختار كتباً في التاريخ أوالشعر أوالأدب وقع نظره على كتاب صغير أصفر الورق وكان في الموسيقى، وطلب منه البائع خمسة مليمات أعطاها له وذهب بهذا الكنز إلى بيته وانكب عليه يلتهم ما فيه، وذهب فاشترى عوداً قديماً وشرع يتعلم العزف عليه مسترشداً بالكتاب، وفي سن مبكرة جداً آنس في نفسه القدرة على تأليف الموسيقى ووضع الألحان والكلمات الشعرية الفصحى والعامية فأخذ يلحن، ووجد أنه يلحن أشياء جديدة تختلف عما كان سائداً في عصره، فتخوف لصغر سنه وقلة تجربته أن يعرض نفسه للسخرية إذا جاهر أنه صاحب اللحن أو على الأقل للتكذيب والأفكار ولهذا بدأ ينسب ألحانه لإبراهيم القباني، فلما أعاد التجربة ووجد أن هذه الألحان تنال استحسان الناس بدأ يقدم نفسه كمؤلف أو ملحن.
اقرأ أيضًا
حلقات سلسلة سيد درويش
على أية حال، فقد انتهينا في اللقاء السابق حيث الحديث عن تبذير سيد وإسرافه وفقره الذي ترتب على ذلك، دون إغفال لما كان عليه سيد من كرامة وعزة نفس دائما ما كانت تربأ به عن استعمال فنه كوسيلة فقط لكسب الأموال وجمعها.
عاش سيد حياته بالطول والعرض لم يدخر مليما من كل تلك الأموال الطائلة التي جمعها، فبالرغم من أنه كسب كثيراً من الذهب، لم يكن ليتبقى منها شيئا بعد وفاته، فسيد درويش لم يكن يخاف المستقبل ولم يكن يطمع في مستوى معيشة يبعد به عن الطبقات الشعبية التي ولد وتربى فيها، ولهذا كان يتخلص أولاً بأول من كل ما يكسبه فبعد أن يكفي نفسه وأسرته بما يجعل البيت مستورا مطمئنا، كان يسد حاجة المحتاج من أصدقائه أو من زملائه الفنانين ثم من الناس الذين لا يكاد يعرفهم، والباقي كان ينفقه على مجالات أنسه ومزاجه في سهرات الفن بين أحبابه وأصدقائه.
سيد درويش بين الأغاني الوطنية وأغاني طوائف الشعب والعمال
تحدثنا فيما سبق عن دور الوعي الوطني في حياة فنان الشعب سيد درويش، وعن أناشيده في مساندة رجال الجندية ورفع روح الوطنية لدى الشعب من خلال وضع الألحان الحماسية لأناشيد عاشت لوقتنا الحالي، ولا تكاد تلك الصفة تنفك عن سيد وفنه في كل مجال يضع فيه فكره ويسخر له فنه الذي لا ينتهي، فقد لحن سيد الأغاني الوطنية والأغاني التي تعالج المشكلات السياسية والاجتماعية وفي كل نوع استطاع أن يوصل بإلهامه المعنى المراد وبيان ذلك على النحو التالي:
لحن سيد درويش الكثير من أغنيات الطوائف وأصحاب المهن، فأتت ألحانه محتشدة بكل معاني الوطنية، مثل لحن “بياعي الجرار” وفيها حض على شراء السلع الوطنية إذ تقول: (خسارة قرشك وحياة ولادك على اللي ماهوش من طين بلادك)، كذلك “لحن الشيالين”، شد الحزام على وسطك الذي غناه بصوته على اسطوانة أوديون، والأغنيه من مسرحية “قولوا له” وفيها انتقاد ساخر لما فعله الإنجليز أثناء ثورة 1919م من مصادرة وقطع لوسائل النقل والاتصالات، وفيها: (ما قطعوا لنا التليفونات وعطلوا التلغرافات، عمركش سمعت الدلنجات بيسافروا لها ببازابورتات؟).
اختتمت بخاتمة مؤثرة جمعت بين العاطفة والتضامن من الشيالين الفقراء يقول فيها: (قرب شيّلني شّيل، عمر الشدة ما تطول، لا تقول لي كتير وقليل، بكرة نهيص زي الأول)، كذلك الحال في “لحن العمال” من مسرحية “رن”، وقد تضمن معنى كثيرا ما اعتاده الشيخ سيد في منهجه، وهو مناهضة المشاعر الطائفية، حيث جاء في الأغنية: “إن محمد يكره حنّا، ودخل دول إيه بس في ديننا”، كذلك اللحن الذي لحنه سيد درويش لفئة المجندين من العمال والفلاحين من أبناء الطبقة الكادحة الذين كانوا يساقون جبرا إلى الحرب: “سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة”، فنحن نتحدث عن رجل مختلط بتراب هذا الوطن، مندمج كل الاندماج بطبقات الشعب الكادحة من العمال والفلاحين.
لحن فنان الشعب سيد درويش من الأغاني أيضا ما كان اعتياديًا في شكله إلا أن مضمونه كان سياسيا ووطنيا بامتياز، كلحن “أهو ده اللي صار وآدي اللي كان مالكش حق تلوم عليا” وفيها: “مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب، خلي بالك من الحبايب دولا أنصار القضية”، كذلك من ألحان سيد ما كان يتوقف فهم مضمونه على معرفة الملابسات والوقائع التي لحنت فيها القطعة ورافقت ظهورها، فمثلا أغنية يا بلح زغلول، التي غنتها نعيمة المصرية على اسطوانة ميشيان إنما كانت لأجل الزعيم سعد زغلول وقت أن حظر الإنجليز على المصريين ذكر اسمه، فانتشرت الأغنية في كل أرجاء المحروسة وعم الهتاف بإسم الزعيم سعد زغلول فلم تستطع الحكومة أن تكمم أفواه الشعب، كذلك الدور الذي تحدثنا عنه من قبل، وهو دور عواطفك دي أشهر من نار إنما جاء في وقت كانت سلطات قد حظرت ذكر اسم الخديوي عباس حلمي الثاني، وغيره من الألحان التي توارت معانيها تحت الظروف والملابسات التي رافقت تلحينها.
لم يتوقف دور سيد درويش والهدف الذي يرمي إليه من ألحانه عند هذا الحد، فقد لحن خالد الذكر من الأغنيات ما يمكن أن ندرجه تحت بند الغناء الاجتماعي المعالج للمشكلات التربوية والأخلاقية والاجتماعية، فها هو يغني عن الغلاء : “استعجبوا يا أفندية ليتر الجاز بروبية”، كذلك لم يغفل سيد درويش أن يوجه فنه إلى المرأة باعتبارها نصف المجتمع، ولها ما لها من دور في النهوض بالبلاد والمساهمة في التخلص من الاستعمار فيقول: ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم، قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم، كذلك لم يغفل الشيخ سيد الوجهة الاجتماعية في أغنياته التي تحدثت عن المخدرات على ما سيأتي في الحلقات القادمة.
خلط لا أساس له
إن ثمة تساؤل قد يثور بذهن البعض، ما علاقة الكلمات بالشيخ سيد درويش، فقد يتوهم البعض أن دور فنان الشعب سيد درويش مقتصر على وضع الألحان دون الكلمات وهو ما يخالف الواقع بكل تأكيد، فكثير من كلمات تلك الأغنيات كان قد ألفه الشيخ سيد أو طلب تأليفه كما هو بالتحديد، أي أنه كان يضع الأفكار التي سيبني عليها النظم، أو كانت كلماتها موضوعه من قبل بالفعل واختارها سيد بنفسه، ولا شك أن محمود بيرم التونسي وبديع خيري لها فضل عظيم في هذه الناحية من حيث مده بأجمل كلمات الشعر الشعبي والزجل.
الكاتب
ما هو انطباعك؟
