رسائل لم ترسل (2) رسالة إلى “مومو”
-
لمياء محمود
كاتب نجم جديد
منذ صغري وأنا مولعة بحب الحيوانات أذكر أنني وأنا في الخامسة من العمر، قررت أن أحول منزلنا لفندق لاستضافة الحيوانات حين يغيب عنهم أحبابهم، تخيلت أن الأمر لن يكلفني سوى نتيجة حائط قديمة ومسمار، لتعليق يافطة أسفل نافذة غرفتي، وانتظرت بلهفة أن يعود أبي من عمله، فيرى اللافتة المعلقة، ويبارك مشروعي، إلا أن خطي كان صغيرا كعمري، فلم ير أبي سوى النتيجة القديمة وقام بنزعها خوفا من أن تزعج أحدهم إن سقطت.
في البداية كنت أخاف الكلاب، وأرغب في اقتناء واحد، كلما رأيت البطلة في أحد أفلام الأبيض والأسود تجري وتداعب كلبها، الذي يجري بدوره لاهثا خلفها في حديقة الفيلا، ذهبت إلى أبي..
– بابا .. أنا عايزة كلب أبيض زي ده
– لما نجيب الفيلا، لازم يقعد في جنينة ما بيدخلش البيت
تحبط أحلامي، وأصدق أبي أن علينا أن نشتري الحديقة للكلب كبداية، ويزداد تصديقي كلما نظرت من شرفة حجرتي على حديقة الفيلا المجاورة، ورأيت الكلاب تمرح بها، لكنها لم تكن كلابا بيضاء صغيرة لطيفة ككلاب الأبيض والأسود، كانت كلاب عملاقة سوداء، إذن فالكلاب أنواع.
كان ذلك قبل أن يظهر “روي” في حياتي. في شارع آخر، وبالقرب من منزلنا القديم، كانت تقطن جدتي، إلا إنه كان شارعا أكثر حميمية ودفئا عن جميع الشوارع التي داستها خطوتي فيما بعد. في ذلك الشارع، وفي صباح عادي جدا لا يميزه عن غيره شيئا ظهر “روي”، لم يُعرَف أبدا من قرر أن يطلق عليه اسم “روي”، ربما تشاركنا جميعا في وجدان جمعي واحد، وقررنا أن كل الكلاب تدعى “روي”.
“روي” لم يكن أبيض صغير ككلاب الأبيض والأسود، ولا أسود ككلاب الحديقة، لكنه أيضا لم يكن كلبا ضالا، كان كلبنا جميعا، جميلا بشعره الناعم الطويل الأصفر، ومهيبا بضخامة حجمه وعلو صوته، وذكيا يعرفنا جميعا، يعرف سكان الشارع الصغير واحدا واحدا، كما يعرف أيضا الزائرين المتكررين. أبدا لم ينبح إلا على الأغراب، كان محبوبا من الجميع، لم يكرهه سوى ذلك الوغد سائق ما أسموه وقتها بعربة الكلاب، بعد سنوات طويلة حزن الشارع على “روي”، وثاروا على ذلك الأحمق الذي ظن أنه يقدم لهم خدمة. من اليوم أصبح الغرباء يمرون بطرقاتنا دون خوف، بل حتى دون أن نشعر أنهم عبروا.
إقرأ أيضًا…
رمضان صبحي .. يهوذا خان أكم يهوذا وباع مسيحر
كنت الأكثر حزنا عليه، كان في مخيلتي الصغيرة كلبي الخاص، وكان الشارع حديقتنا، حتى وإن لم يُسمَح لي أبدا بالنزول للشارع وحيدة، أو الاقتراب منه، إلا إنني كنت متأكدة من أنه في حياة أخرى كان لي وحدي، يلهث خلفي فاضحك، ويمنع الغرباء من الاقتراب دائما.
ربما كانت صدفة، وربما أراد أبي أن يتحايل على حزني على “روي”، فجائنا يوما بكلب أبيض عملاق، تهللت أساريري وأنا أرى أبي من شرفة حجرتي يحمل كلبا أبيض بين يديه، وتحطمت أحلامي للمرة ال… لا أذكر كم، حينما صعد أبي إلى منزلنا واكتشفت أنه جائنا يحمل كلبا أبيض من الجبس، أبي عاشق الانتيكات والتحف جائنا بتمثال آخر ليضاف لمتحفه، لكنني كنت أخذت قراري بأن أحبه قبل أن أكتشف أنه مجرد صنم آخر، فقررت أن احتفي به واطلقت عليه اسم “مومو”، لم أترك أبي يضم “مومو” لمتحفه، وابقيته بصحبتي، اتركه بجوار سريري قبل النوم وأدعي أن أستيقظ يوما لاجده قد أصبح كلبا حقيقيا، أتحدث معه وأناديه باسمه كثيرا، أنا أعرف أن الله يحقق لي دعواتي، كنت أريد أن أذهب لنفس الفصل مع نيفين، ودعوت الله كثيرا، فذهبت. “مومو” سيصبح كلبا حقيقيا. أمي كانت تكره “مومو” جدا، تقول:
– يا ساتر يارب، عينيه بتنور في الضلمة كأنه كلب بجد، يا بنتي شيليه من جنبك وانتي نايمة، ما بتتخضيش.
– مومو .. اسمه مومو، هو هنا عشان بيحرسني
تضحك خالتي الصغرى، وتخبرني إنني إن أكلت طبقي كله، فإن جنية الأحلام ستحبني، وستحقق لي حلمي. انتهي من طبقي وأنام كثيرا، واستيقظ لأجد “مومو” مازال مجرد تمثال رخيص من الجبس، أبكي، فتخبرني خالتي أن “مومو” لم ينتهي من طبقه، وأنه هو الآخر يحلم أن يصبح كلبا حقيقيا بدلا من أن يكون مجرد تمثال من الجبس بعيون مصنوعة من الترتر الأحمر تخيف أمي
– بس إنتي عايزاه يبقى كلب حقيقي ليه؟
– عشان بحبه!، وعشان يحبني ويحرسني، نجري ورا بعض زي الفيلم ده “وأشير بيدي للتلفاز”، تضحك خالتي، وتخبرني: تتصرفين كأميرة
ترد جدتي: بل هي أميرة بالفعل
– إنتي عارفة إن جدك كان باشا؟، كان مشارك في سكك حديد مصر
تخرج جدتي صكا مشاركة في سكك حديد مصر بمبلغ ألفين جنيه وترينا إياه، لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة، جدتي تتمسك بوهم العهد البائد، تستدعي ذكريات ما قبل التأميم، وأنا لا أعرف معنى التأميم، كل ما يعنيني هو “مومو”
– يعني لو جدو كان عايش، كان زماني عندي جنينة ومومو كان حيتحول لكلب حقيقي؟
-لاء جدك كان عنده كلب وولف، مومو أية بتاعك ده؟!
وتضحك جدتي، وتضحك خالتي وتستعيذ أمي من الشيطان كلما لمحت عينا مومو في الظلام، وأدعو أنا الله كل ليلة أن يصبح مومو كلب حقيقي، أترك طبقه أمامه واترجاه أن يأكل كل ما فيه من طعام
– عشان خاطري خلص طبقك، لو خلصت طبقك جنية الأحلام حتحبك، وحتبقى كلب حقيقي، حجيب لك كل يوم حاجة أحلى من إللي قبلها، ومعلش مفيش جنينة، بس إحنا ممكن نجري في البلكونة الكبيرة بابا ماليها ورد، وعمو أنيس عامل زرعة تمر حنة واصلة لعندنا، حجيب لك هدوم كتير، ولعب، حسيب لك مصروفي كمان، بس ممكن بقى تاكل طبقك كله وتبقى كلب حقيقي؟، أنا بقالي سنين كتير بدعي ربنا إني عايزة كلب أبيض، وإنت جيت،وبقالي سنين بحاول اعملك كلب حقيقي، وإنت ما بتساعدنيش.
في أحد الأيام كانت إبنة الخال تحاول صنع زهرة من ورق الكوريشة، فنزعت عينا مومو في غيابي لتزين زهورها، وقتها بكيت كثيرا، وربما لمته، لو كنت حقيقيا ما استطاع أحدهم أن ينزع عيناك حتى في غيابي. بعد فترة اكتشفت هند أن بإمكانها كسر أذن مومو لتزين بها حائط المبكى بمنزلها، ثم عرفت ليلى أن كسر أنفه ليس صعبا، فلماذا لا تفعلها لمجرد أنها تستطيع؟!ز
في كل مرة كانت تأخذ إحداهن قطعة من جسد مومو، كانت ردود أفعالي تتفاوت، أذكر أنني حاولت ترميمه حينما قطعت منى لسانه المدهون بالأحمر، بالأخير أصبحت أنا كبيرة بما يكفي لأدرك أن مكان مومو الصحيح لم يكن أبدا قلبي، كان خلف زجاج متحف أبي، تحديدا بجوار تلك “البونبونيرة” الغريبة التي صنعت على شكل أرنب بكرش أزرق.
في النهاية لم أعد ألاحظ من أو ماذا اقتطع من جسده، حتى أن سارة طلبت في مرة قطعة من فخذه لتلعب بها لعبة المعلمة ولم أرد عليها بإيجاب أو رفض، وحينما غرزت قطتي أظافرها في صدره فكسرت أحد الأظافر، كانت حقيقية في تعبيرها عن استيائها، حقيقية لدرجة جعلتني اتركه أسفل منزلنا، وأراه يتحول لمسحوق من التراب الأبيض على يد أطفال الشارع.
أدركوا سريعا أنه لا شيء، هو مجرد لعبة يمكن تكسيرها وتحويلها للعبة أخرى أو سحقها تماما، ربما مومو لم يكن أكثر من أمنية طفولية ساذجة تليق بطفلة صدقت في وجود جنية الأحلام وأنها أميرة، وقبلت أن تعلمها جدتها طيلة الوقت كيف تجلس، تسير، وتتحدث كواحدة، على حد قولها “برنسيس”، إلا أن “زيوس” البيتبول مفتول العضلات الذي أنقذني من الموت، هو الحقيقة التي تليق بفتاة تدرك جيدا موقعها من العالم.
رسالتي ليست إلا رسالة اعتذار، لقد طالبتك أن تكون حقيقيا، أن تكون وفيا وشجاعا وبإمكانك أن تمارس دورك لتدافع عن كلانا، لم أعرف أنني لا يمكن أن أحمل صنم ما هو فوق طاقته، لم يدركك ويدرك حقيقتك وكيفية استغلالك، غير من تحولوا أنفسهم لأصنام
الكاتب
-
لمياء محمود
كاتب نجم جديد