لعنة ديكارت
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
“إن ديكارت ملحد كافر آثم …لانه نادي بمبدأ الشك !!!…و الذي شك فيه بوجود نفسه ثم الوجود ثم الله …وقال فيه أنا اشك اذا أنا موجود”…..هكذا قالت المعلمة في إحدى دروس تحفيظ القرآن الكريم.
جاءت الجملة قاسية مستفزة كصفعة على وجهي، وكقبضة موجعة ببدن دراستي بقسم الفلسفة في كلية الآداب.
“إن أي فيلسوف جاهل ملحد أحمق … وبالتالي فليس علينا تصديق كلمة واحدة من الفلسفة الكافرة الملحدة” أتمت المعلمة جملتها، وقرات الآيات :
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾
سيدتي…هل جميع الفلاسفة جهلة حمقى حقًا ؟ هل تدركين معنى أن تكفري جميع الفلاسفة ؟ وماذا عن ابن رشد والفارابي وابن سينا والكندي والشيرازي وابن باجة والإدريسي وابن النفيس وابن الهيثم وابن حزم والغزالي ؟ كيف ترميهم بالزندقة وهم من أثروا الثقافة الإنسانية بحب الحكمة وطلب المعرفة ؟ كيف والقرآن الكريم الذي تتفوهين بكلماته يدعو لاستخدام العقل والتزود بالمعرفة، فيقول الله عز وجل : أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، لقوم يعقلون ؟ كيف والفلسفة معروفة بميلها للتساؤل والتدقيق في كل شئ والبحث عن ماهيته ومختلف مظاهره وأهم قوانينه ؟ كيف والفلسفة هي التي تُعرّف بأنها محاولة للإجابة عن الاسئلة الأساسية التي يطرحها الوجود والكون ؟
سيدتي كان من أسباب اهتمام رينييه ديكارت بالفلسفة رؤيته أنها ترشدنا للخير الأسمى الذي تسعى البشرية لتحصيله، فالخير الأسمى ببساطة هو معرفة الحقيقة.
واليقين عنده ليس في الحواس بل في الذهن، فحواسنا قد تخدعنا، وهي مصدر غير موثوق نعتمد عليه في اكتساب المعرفة، وحواسنا كثيرا ما تخطئ وليس من الحكمة أبدًا ان نثق فيها، فنحن مثلا نري السماء و البحر متصلان من بعيد بالرغم من أن هذا الآمر ليس حقيقيًا.
إن البحث عن الحقيقة عند ديكارت يحتاج من الإنسان مرة في حياته أن يضع الأشياء جميعا موضع شك بقدر الإمكان.
وببساطة سيدتي فالشك المنهجي عنده يصور فيه عقل الإنسان كسلة من التفاح، بها السليم والمعطوب، ولكي نفرز التفاح الصالح يجب علينا أولًا أن نفرغ السلة نهائيًا من جميع التفاح الموجود بها ثم نفحصه واحدة واحدة، ونعيد السليم منها ونلقي بالمعطوب حتى لا يفسد بقية التفاح، وكذلك الأفكار في العقول، يجب أن نحرر عقولنا من جميع الأفكار سواء كانت فاسدة أو صالحة.
ومن هنا ظهر الكوجيتو : “أنا اشك..اذن أنا افكر..اذن أنا موجود” والكوجيتو : هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان وهو عبارة عن قضية منطقية ترجمتها بالعربية هي (أنا اشك إذا أنا موجود) وهذه هي ترجمتها الصحيحة لان البعض يترجمها (أنا افكر إذا أنا موجود) وهذه ترجمة خاطئة لها.
وبعد أن شك ديكارت في كل الحقائق التي اكتسبها منذ صغره وشك حتى في وجوده، كان لزامًا عليه أن يبحث عن دليل يقيني يثبت به وجوده في الحياة، ووجد هذا الدليل وتوصل إليه عندما قال : “كلما شككت ازددت تفكيرًا فازددت يقينًا بوجودي” ويقول : “إذ ليس من الشك إنني موجود، ولا يمكن لأي كائن أن يضللني ويجعلني لاشيء مادمت أفكر”، أي أن التفكير، والشخص الذي يفكر يجب ان يكون موجودًا : أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.
يتسلق الإنسان إلى عالم الافكار بخيط من نور، خيط حاكه العقل من الشك والجدل ليرتق بها فتوق الحيرة، إن الشك ليس نقيضًا لليقين بل مكملا له، وكما قال نيتشه: “ليس الشك، وإنما اليقين هو الذي يقتل”، وكما أقول أنا دائمًا : “من يدعي أنه يمتلك اليقين الكامل إعلم أنه كاذب، ومن يصل لمرحلة اليقين بدون المرور برحلة من الشك طالت أو قصرت فهو إما جاهل أو احمق أو منافق، فاليقين المطلق هو بداية الضلال.”
وعن الاله : فيعتقد ديكارت أن الله يشبه العقل من حيث أن الله والعقل يفكران ولكن ليس لهما وجود مادي أو جسمي، إلا أن الله يختلف عن العقل بأنه غير محدود، وأنه لا يعتمد في وجوده على خالق آخر، ويقول:”إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخيّر لدرجة لا حدود لها” فكيف لرجل كهذا أن يكون كافرًا سيدتي؟؟
سيدتي، توصف الفلسفة عادة ” بالتفكير في التفكير”، وأبدًا ما كانت “التفكير في التكفير”.
لم أجادل أكثر من ذلك حتى لا اتهم بالالحاد أنا الأخرى، أو أرمى بالكفر، أو يٌحكم على بالزندقة، أو يٌقام على حد الردة، أو أصاب بلعنة ديكارت.
فقط امتنعت عن حضور الدرس الاسبوعي، وإلى الآن لم أحفظ معها بعد ما حفظت آية !
إقرأ أيضاً
لعنة اللون الأبيض.. طريقة التعذيب المستوحاة من الملائكة
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال