الموسيقي العبقري .. عن محمد القصبجي وأسلوبه المختلف
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السابعة من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن تفرد الموسيقار محمد القصبجي وأسلوبه المختلف عن غيره من كبار الموسيقيين الذين حازوا لقب المجددين في الموسيقى العربية، وألقينا الضوء على الصورة العامة لألحانه كي تتشكل في ذهن القاريء صورة يتضح بها مسار تاريخ هذا الرجل عند التحدث عن مشواره وفقا للتتابع الزمني، واليوم نعود لاستكمال مشوار ذلك الموسيقي العبقري بعد أن تعرف على كوكب الشرق أم كلثوم.
صعود نجم الموسيقار الكبير محمد القصبجي:
ذكرنا في الحلقات السابقة أن حياة الموسيقار محمد القصبجي وسيرته وإن كان من الواجب أن تدرس بمعزل عن تاريخ كوكب الشرق أم كلثوم، إلا أن الثابت بلا شك أن محمد القصبجي ما كانت لتترجم ألحانه بتلك الصورة البهية بغير صوت أم كلثوم، وقد تحدثنا عن أغنيته العظيمة يا مجد ياما اشتهيتك والتي غنتها أم كلثوم في فيلم نشيد الأمل وكيف نفذت أم كلثوم الفكر العميق لمحمد القصبجي ليخرج اللحن بهذا الشكل البديع.
لا شك أن حصر نتاج المرحوم محمد القصبجي في غناء أم كلثوم هو اختزال واضح لمشوار هذا الرجل الذي بدأ العمل في المجال الموسيقي قبل أن تأتي أم كلثوم للقاهرة أصلا، محمد القصبجي الذي انتبهت شركات الاسطوانات إلى عبقريته فتهافتت على أن تحظى بتسجيل وتخليد أعماله على اسطوانات تحمل اسمها، ومن الأمور التي تخفى على كثير من الناس أن منيرة المهدية وقت أن كانت المطربة الأولى في مصر حين استمعت إلى نتاج محمد القصبجي سارعت إليه بطلب التلحين لها حين كانت تعمل في المسرح وبالفعل لحن لها المرحوم محمد القصبجي بعض الأغاني والأوبريتات االمسرحية، وهو ما شجع الكثير من المطربين على الغناء له، فغنى له المرحوم زكي مراد والمرحوم الشيخ سيد الصفتي والمطرب الكبير المرحوم صالح عبد الحي.
إقرأ أيضًا..كانت فأصبحت : الجزء الأخير .. هل وصلت الأغنية المصرية للعالمية؟
شهدت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين بدءا من عام 1920م وحتى 1930م صعودا لنجم ذلك الملحن القدير “ولا نقول منذ عام 1924م حتى لا يتوهم البعض أن المسألة متعلقة بتلحين القصبجي لأم كلثوم”، صحيح كان أهم محور فى حياة المرحوم محمد القصبجى هو تعرفه بأم كلثوم ، ولا شك أنه سعد أشد السعادة بهذا اللقاء إذ أنه أحس بأن صوت أم كلثوم يمكن أن يقدمه إلى الجمهور فى أبهى صورة، وكان طموح القصبجى الفنى يجعله يبحث دائما عن أفضل الأصوات التى يمكنها أداء ما يريده من تجديدات وإضافات إلى أساليب التلحين والغناء الشرقى، إلا أنه لا يمكن بحال قصر ذلك الصعود الفني الكبير على هذا المحور رغم أهميته، فقد بدأ محمد القصبجي خلال تلك الفترة بإرساء دعائم فنه وشخصيته المستقلة بألحان كتب لها الخلود في وقت كانت تندثر فيه أعمال كاملة لمطربين وموسيقيين قضى عليهم العصر المظلم، سعى بكل ما أوتي من قوة لترجمة ألحانه وتقديمها بالصورة التي تخيلها، ليس ذلك فحسب بل تعلم التأليف وكتب الأزجال والقصائد وعرضها على المنتجين ليكون نتاجا قصبجيا خالصا على مستوى الكلمات والألحان، وليكتمل البنيان كون تخته الخاص ” تخت محمد القصبجي” واختار فيه صفوة الموسيقيين والعازفين، وكان ذلك في العام 1927م، فاختار محمد العقاد عازفا للقانون، وأمير الكمان سامي الشوا، وبهذا الشكل كان له تخت محمد القصبجى، إلا أنه لم يتوقف عند الشكل التقليدى ولمعروف للتخت، فأضاف إلى فرقته الخاصة آلة التشيللو وآلة الكونترباص وهما آلتان غربيتان لم يكن قد جرى استخدامهما في التخت الشرقي.
ولكن، كيف تكونت شخصية ذلك الموسيقي القدير بهذا الشكل؟ كيف امتلك تلك الأدوات التي أهلته لتلك المكانة الفريدة بين الموسيقيين؟
والحقيقة أن الإجابة على هذا التساؤل الهام إنما تكمن في التنشأة الأولى التي تكونت خلالها شخصية المرحوم محمد القصبجي، فمحمد القصبجي كان قد تخرج من مدرسة عثمان باشا على يد المرحوم الشيخ أحمد الحملاوي بعدما حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام التجويد، ولا شك أن التجويد هو المدرسة الوحيدة المشتركة التي أنجبت عباقرة الموسيقى العربية في القرن العشرين بل وفي العصر الذي سبقه، فسلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد وأم كلثوم ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وأحمد عبد القادر وغيرهم كل هؤلاء قد تلقوا في صغرهم علوم التجويد وحفظوا القرآن الكريم ومنه خرجوا إلى دنيا الفن، أما محمد القصبجي فقد حاز ميزة أخرى إضافية، فهو ابن الشيخ علي القصبجي المنشد والمقريء والملحن المعروف، كان يكتب النوتة الموسيقية لمؤلفي ومطربي عصره، فتعاطى ابنه لضروب التأليف الموسيقي الشرقي منها والغربي، ولم يكن يحتمل مع محمد القصبجي خطر تشويه موسيقاه أو تهجينها كما ذكرنا من قبل لأنه أتقن الموسيقى العربية واتخذ علمها من منبعه الأول وهو التجويد والموشحات، ونشأ في بيئة اجتمعت عندها سلالات أصيلة من سلالات الفن العربي، ولعل ذلك كان سببا في قدرة المرحوم محمد القصبجي على استخدام الفنون الغربية في الموسيقى دون أن يفققد روحه العربية الأصيلة، فجزوره ضاربة بعمق في التراث العربي الموسيقي، وشخصيته العربية الموسيقية مكتملة التكوين، ولا شك أن هذا المسار التربوي على حد تعبير البعض قد يحل الكثير من المشكلات التي تنتاب المفكرين الاجتماعيين بل والسياسيين العرب الذين تتجاذبهم النوازع إلى التراث والأصالة تارة والرغبة في التطوير والإستفادة مما قدمه الغرب من تجديد تارة أخرى.
إقرأ أيضًا…ركة Dox للتسويق الشبكي .. نصب أم استثمار (تحقيق)
مشوار طويل قضاه الموسيقار الكبير نحيل الجسد بصمت وهدوء غريبين، تتلمذ خلاله على يده العديد من الموسيقيين العرب منهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب سيد مطربي القرن العشرين وكوكب الشرق أم كلثوم وليلى مراد ونور الهدى وغيرهم، ممن حظوا بشهرة واسعة لم يحظ القصبجي بنصفها، مشوار أضاف بحق للموسيقى العربية دون تشويه أو تعكير لصفو المزاج العربي في المادة المسموعة، ومكانة حفظت له بميدان قالب من أروع القوالب الغنائية وهو قالب المونولوج الذي أحدث فيه ثورته الكبرى بمونولوج إن كنت أسامح وانسى الأسية الذي بيعت منه ربع مليون اسطوانة على ما سنتحدث في حلقات قادمة مرورا بمونولوج يا عشرة الماضي الجميل ويا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان وأخيرا رق الحبيب الذي اختتم به محمد القصبجي مشواره الخصب مع أم كلثوم، دون أن يخفق فيما لحنه لها من طقاطيق وقصائد، فيما كان يسير في مشوار مواز مع مطربين ومطربات آخرين صنع لهم مجدا بأعمال خالدة حازت هي الأخرى شهرة أوسع من ذلك الموسيقار المظلوم محمد القصبجي.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال