مدرب التنس…”حادثة تحرش”
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
فاجئني وجهه وسط الزحام، وجه كان مألوفًا لكنني لم أتذكر صاحبه…!
منذ سنوات كنت أدرس بمعهد للكمبيوتر، ركبت الترام ذات نهار صيفي أحمل كتب المعهد، وأفكر في اختبار “الإكسل” الذي سوف اخوضه بعد يومين، وكعادتي أخذت في تفحص الوجوه من خلف نظارتي الشمسية، ثم رنوت بناظريّ إلى النافذة بجواري، وكعادتي أيضا كلما توقفت الترام في محطة وصعد الناس إليها بحثت فيهم علّي أجد رجل مسن أو امرأة عجوز لأمنح أحدهما مقعدي.
على امتداد بصري وقف شاب موجها وجهه ليّ، بدا لي أنه يومئ ويتحدث ، ظننت أنه يتحدث لأحدهم في مقعد خلفي، لكنني لاحظت أني كلما نظرت للنافذة توقفت إيماءاته وحديثه، وكلما أدرت رأسي للبحث عن مسن أو عجوز عادت إيماءاته ورجع حديثه.
إقرأ أيضًا..منابع التحرش .. كيف تعلم الرجال ” للأسف” أن التحرش فضيلة؟
لم افاجئ، فكم تعرضت لمواقف مشابهة من معاكسات ومضايقات في شوارع مدينتي، وقررت أنني لن التفت إليه ووجهت نظري كليا إلى النافذة، ولكن ولسوء حظي توقفت الترام لانقطاع التيار الكهربائي، كان ميعاد المحاضرة قد حان، ضحكت بسخرية وأنا أقول لنفسي: 6 محطات مش مشكلة …انزل اخدها مشي المشي رياضة برضه !!
وقد كان.
ما فاجأني هو أن الشاب نزل مسرعا خلفي، أسرعت الخطى فوجدته يسير بجانبي، انتقلت للجهة المقابلة من الرصيف، انتقل ورائي، كان يتبعني بإصرار وعناد لم أعرف مغزاهما، كدت أمر أمام مقهى مزدحم، فاختفى عن الأنظار، حمدت ربي وأكملت طريقي.
-أنا أحمد جلال مدرب تنس، انتي جسمك نار على فكرة!!
هكذا ظهر كفرقع لوز من اللاشئ، يهمس في أذني محاولًا ملامسة نهدي، أتذكر وأنا أكتب الآن ضربات قلبي المضطربة المتلاحقة، وبرودة أطرافي، وقطرات العرق البارد تنهمر فوق جبهتي، رعب يتملكني من نظرات التحدي في عينيه وهو يخطو بجواري، كدت أسقط مرات عديدة وأنا أمشي بلا هدف، كدت أصرخ في وجهه : سيبيني في حالي انت عايز ايه؟؟…..لكن منعني حيائي من الصراخ في الشارع، ومنعني أيضًا نظرة الناس لأية أنثى يتم التحرش بها.
يهمس مجددًا : ممكن نتعرف.. انتي مخطوبة طيب؟؟..متخافيش مني أنا عايز اتكلم معاكي بس!.
لاحقني حتى باب المعهد، فوجدت ابتسامة ساخرة ترتسم فوق وجهه وهو يقول : حشوفك تاني اكيد !!
وجاء يوم الاختبار، كدت ألا اذهب، كنت اموت رعبا من تكرار الموقف معه أو مع شخص آخر، دمرني الحقير لعدة أشهر، فكلما مررت من أمام شاب أو رجل تجسدت نظرات الرعب والإمتعاض فوق وجهي وأنا أنظر إليه، أمشي مقيدة بأغلال لا يشعر بها سواي، لا أستطيع رفع عيني عن قدمي، وجهي يكاد يغرق فوق الأرصفة، أفضل السير في الشوارع الهادئة عن تلك المزدحمة، حينها أدركت كم هو شعور بشع أن تكون الأنثى أنثى !!.
إقرأ أيضًا…لماذا لا تتحدث الناجيات من التحرش أو الإغتصاب؟
تكرر الموقف معي مرة أخرى، نفس الشخص، بذات التفاصيل، بنفس الصوت، بذات الهمسات في أذني، بنفس الاختفاء المفاجئ عند مروري بجوار مقهى، بنفس ضربات قلبي والحياء الذي منعني من الصراخ في وجهه، برغم اختلاف المكان، فقد قابلته وجهًا لوجه في الطريق حيث كان يمشي في مواجهتي واستدار ليلاحقني مرة أخرى، وبرغم اختلاف وسيلة المواصلات، فقد استقل معي ميكروباص أثناء توجهي إلى مقر عملي بدلًا من المعهد، كان يتذكرني، أعلم هذا جيدا من نبرات صوته ومن همساته.
وذات يوم فوجئت بطلب صداقة على الفيس بوك، كانت الصفحة تحمل اسم أحمد جلال، كان هو، وعلى صفحته في منشور كان ينادي بضرورة معاقبة المتحرشين وتغليظ عقوبة التحرش، ويقارن ما بين الأحكام في مصر والغرب، وكيف أن الأحكام في الدول الغربية قد تصل أحيانا للمؤبد وأحيانا لمائة واربعون سنة إذا كان المتحرش به طفل أو طفلة !.
– تعرفي ؟؟؟…فيه دراسة اتعملت سنة 2014 القائمين عليها سموها خريطة التحرش، اكدت ان 95.3% من السيدات المشاركات فيها تعرضن لنوع من انواع التحرش، وتلاقي حيوان بيدافع عن حقوق المرأة مثلا وعمال ينادي ويقول لازم نعاقب المتحرشين بقوانين رادعة ونغلظ العقوبات، وف نفس ذات الوقت بيرمي اللوم ع البنت اللي اتحرش بيها، في مشهد عبثي لا منطقي للشيزوفرينيا !!.
هكذا أخبرتني زليخة، وزليخة سوف تجدها تظهر من وقت لآخر في مقالاتي، فهي شخصيتي الأخرى وصديقتي الصدوقة والجانب القوي في أعماقي، والتي تحدثني وأتحدث إليها دوما وتخبرني بما لا أعرفه، تابعت :
– أنا عارفة انتي مصرختيش ليه، عشان عارفة ان محدش حينجدك ولا حيجيبلك حقك، وحيقولوا انك انتي الغلطانة كمان، يا عزيزتي فيه ظاهرة في علم النفس اسمها “تقليل الاستياء”، الظاهرة دي بتفسر ليه دايما الافراد والمجتمعات بيتعاطفوا مع المذنب وبيلوموا الضحية،
في مقال بعنوان :
Cognitive biases in blaming the victim
أو التحيز الإدراكي للوم الضحية، ذكرت إن باحثة اسمها ليندا كارلي عملت تجربة على مجموعتين من الطلاب، والتجربة بتقوم ف الاساس على حكاية.
لحكاية باختصار ان بنت وولد اتقابلوا ف حفلة واتعرفوا ع بعض، وبعد ما الحفلة خلصت اتكلموا شوية، وعرض الولد انه يوصل البنت لبيتها ووصلها فعلا وانتهت القصة ع كده للمجموعة الأولي.
المجموعة التانية اتحكالهم ان الشاب اتحرش بالبنت، وانتهى الأمر انه أغتصبها، المجموعتين اندمجوا مع بعض واتطلب منهم يتكلموا في الموضوع، وبعدين انفصلوا تاني، ولما اتسألوا عن رأيهم ف القصة كانت المفاجأة ان المجموعة التانية لاموا البنت اكتر من الشاب لانها راحت معاه، وده دليل على ظاهرة تقليل الاستياء اللي بيدفع كتير من الناس للوم الضحية في محاولة للهروب من الشعور بالذنب، بمعني ان عشان حضرتك متحسش بالذنب رميت كل الموضوع على المجني عليه (البنت) في محاولة يائسة وبائسة لتبرئة نفسك واسمك، وفي محاولة انك تسكت صوت ضميرك وتهرب من شعورك بالذنب، وبالتالي المتحرش بيقلب لمسكين وبرئ، والمتحرش بيها بتبقي هيا الكلبة الوحشة السافلة الواطية الحيوانة الشريرة.
يقولون أن الصياد ينسى فرائسه، وكم كان عددها، وكيف كانت تحتضر بين يديه، ولكنني متأكدة وعلى يقين بأنه يتذكرها جميعا، حتى وإن اختلفت وسائله في القنص !!.
“حادثة تحرش”
كلمة أهمس بها في أذن كل متحرش، ولكنها ليست كهمسات “اخينا”: أنتم تذبحون الأنوثة فينا، أنتم تقتلون فينا الحياة ..
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال