ألحان الشيخ زكريا أحمد لأم كلثوم..من حكايات “كوكب الشرق” (38)
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الثامنة والثلاثين من سيرة كوكب الشرق ودرة القرن العشرين الآنسة أم كلثوم إبراهيم، وفيها نكمل ما بدأناه من حديث عن مشوارها مع قالب القصيدة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة السابقة عن ألحان الشيخ أبو العلا محمد والطبيب أحمد صبري النجريدي وكذلك المرحوم محمد القصبجي، واليوم نبدأ بألحان الشيخ زكريا أحمد لأم كلثوم في ميدان القصيدة.
زكريا أحمد وتلحين قصائد أم كلثوم:
لم يتوقف إبداع زكريا أحمد عند حد تطوير الطقطوقة والدور كما هو معروف منذ بداية مشواره مع أم كلثوم منذ عام 1931م، بل أبدع كذلك في ميدان القصيدة، وكانت البداية مع فيلم وداد الذي لحن الشيخ زكريا قصيدته الوحيدة “أيها الرائح المجد تحمل، حاجة للمتيم المشتاق”، وقد لحنها على مقام الصبا وخرج اللحن بديعا وأثنى عليه الجمهور وأعجب به، وعلى الرغم من كونها التجربة الأولى له مع أم كلثوم في تلحين القصائد الشعرية إلا أنه أثبت براعة كبيرة في تلحين الشعر، ولذلك حين تعاقدت أم كلثوم على فيلم دنانير، أسندت كل ما فيه من قصائد إلى الشيخ زكريا أحمد كي يلحنها لها، وبالفعل لحن لها الشيخ زكريا أربع قصائد، ثلاث منها مجتمعة في موقف واحد تبدأ كل منها بقول الشاعر: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي، أما الرابعة فكانت من تأليف شاعر الشباب أحمد رامي وهي قصيدة “رحلت عنك ساجعات الطيور” وقد لحنها المرحوم زكريا أحمد من مقام الصبا، على أن آخر ألحان الشيخ زكريا أحمد لام كلثوم من القصائد كان لحن لقصيدة كتبها الشاعر محمد الاسمر تحية للجامعة العربية سنة 1945م ويقول مطلعها: زهر الربيع يرى أم سادة نجب، وروضة أينعت أم حفلة عجب، فألحان زكريا أحمد لأم كلثوم في ميدان القصيدة لم تتعد قصائد أفلامها وقصيدة الجامعة العربية وقصيدة أخرى مفقودة تقول: بين ذل الهوى وعزة نفسي.
أم كلثوم وثورة رياض السنباطي الكبري في ميدان القصيدة:
من الثوابت لدى كل الموسيقيين والسميعة أنه إذا ذكرت القصيدة ذكر رياض السنباطي، فالسنباطي هو صاحب الوثبة الكبرى في ميدان قالب القصيدة مع كوكب الشرق أم كلثوم، لذلك لقبه البعض بأبي القصيدة، فالسنباطي أدخل على تلحين القصيدة ما لم يكن موجودا قبله في ألحان الكبار كالشيخ أبو العلا محمد، فتلك الألحان القديمة كانت تقتصر على اللوازم الموسيقية بين صدر البيت وعجزه أو الترجمة للمطرب، ثم جاء رياض السنباطي فأدخل المقدمات الموسيقية الثرية، واللزمات المحكمة والتنقلات البديعة التي أكسبت اللحن الثراء الذي حق لرياض السنباطي أن يتصدر ملحني القصائد بسببه.
إقرأ أيضًا….مسلسل أحمد زكي لن يرى النور أبدا..الأسباب بصراحة
تقول الدكتورة رتيبة الحفني:
كان الموسيقار رياض السنباطي متأثرا بالرعيل الأول من ملحني القصائد، كما كان متأثرا بأسلوب زكريا في هذا المضمار، ويبدو ذلك واضحا في أول قصيدة من ألحانه لأم كلثوم وهي قصيدة هوى الغانيات لشاعر الشباب أحمد رامي ويقول مطلعها: كيف مرت على هواك القلوب، فتحيرت من يكون الحبيب، ولكن سرعان ما استطاع رياض التخلص من جاذبية اسلافه في التلحين وانطلق بأسلوبه المميز في فضاء هذا الفن العريق، فن تلحين القصيدة الذي فتح صوت أم كلثوم له فيه أبوابا سحرية، وبذلك تفتحت موهبة السنباطي ولبى بألحانه صوت أم كلثوم وارتفع به إلى قمة الغناء.
والحق أنني أختلف قليلا مع الدكتورة رتيبة الحفني في مسألة تاثر السنباطي بألحان الشيخ زكريا أحمد خصوصا وأن لحن كلحن قصيدة هوى الغانيات الذي ضربت به المثل هو لحن يختلف كليا عن طريقة زكريا في التلحين، فألحان قصائد زكريا لأم كلثوم في أفلامها لم تكن بهذا الثراء الذي قدم به السنباطي قصيدة كيف مرت على هواك القلوب، ولا يستطيع أحد أن ينكر نجاح ألحان زكريا للقصيدة إلا أن ما فعله السنباطي إنما جاء كثورة في ميدان القصيدة تماما كتلك التي أحدثها القصبجي في ميدان المونولوج، لذلك يقول المرحوم كمال النجمي، أن السنباطي قد تخطى أسلافه ومعاصريه في تلحين القصائد وذلك بالاستعاضة عن الطرب الزخرفي بطرب أكثر تعبيرا، فقد أحاط السنباطي الجملة الغنائية في القصيدة بإطار مبتكر من المقدمات واللوازم الموسيقية زاد الجملة الغنائية بكلامها ولحنها وضوحا في الأسماع ورهافة في القلوب، وعقد صلة شديدة القوة بين الصوت واللحن وعزف الآلات الموسيقية، وقد تزايدت مقدرته من مرحلة إلى مرحلة، وزودته تجاربه بما يمكن أن نسميه سر الصنعة، وهو سر لم يستطع أحد من ملحني عصره أن يشاركه فيه.
ومن ألحان المرحوم رياض السنباطي لأم كلثوم في ميدان القصيدة:
قصيدة هوى الغانيات ” كيف مرت على هواك القلوب”
قصيدة اذكريني كلما الفجر بدا
قصيدة سلو كؤوس الطلا
قصيدة سلو قلبي
قصيدة رباعيات الخيام
قصيدة الأطلال
قصيدة إلى عرفات الله
قصيدة قصة الأمس “أنا لن أعود إليك”
قصيدة أراك عصي الدمع
قصيدة ذكريات
وغيرها من القصائد التي سطر السنباطي بها مع صوت كوكب الشرق تاريخا عظيما جعله يتصدر قائمة ملحني القصائد على مر التاريخ وليس على نطاق التلحين لأم كلثوم فحسب، وعلى الرغم من ذلك، لم تشأ أم كلثوم أن تسند إلى رياض السنباطي تلحين قصائد رابعة العدوية فأسندت للموجي والطويل بعضها وتلك كانت مفاجأة لمتابعي فن أم كلثوم، حيث أن تجارب الموجي والطويل وقتئذ في ميدان القصيدة كانت لا تزال في بدايتها.
وأخيرا، فمنذ أن بدأت أم كلثوم غناء القصائد في العشرينيات وهي تظهر بحنجرتها المثقفة ونطقها السليم، في وقت كان الناس يستمعون فيه للغناء السوقي، فلما جاءت أم كلثوم صمت المطربون وأنصت المستمعون، لذلك عرفت أم كلثوم بمطربة القصائد، لأنه لم ينازعها في هذا الميدان مطرب أو مطربة، فقد غنت ما يقرب من ثمانين قصيدة في مشوار طويل وصعب شهد تطورا كبيرا في أداء القصائد إلى أن وصلت به أم كلثوم في النهاية لأبهى صوره.
وحول هذا المعني يقول كمال النجمي: إن الطابع الأساسي في غناء أم كلثوم للقصائد كان إطلاق صوتها على امتداد مقاماته السبعة عشر “في العشرينات”، والتشدد في دقة الأداء، تحقيقا لعنصر أساسي من عناصر الغناء العربي المتقن وهو قوة الأسر، أي شدة الضبط والإحكام في الأداء، ومتانة بناء الأداء نبرة فوق نبرة، وقوة الاسر في الغناء العربي كانت منذ بدايته استطرادا للفصاحة في الشعر فلا تجتمع الفصاحة الشديدة في الشعر مع ركاكة الغناء واسترخائه، وقد حققت أم كلثوم تدريبا صوتيا بالغ الأهمية كما حققت نصرا ساحقا على طريقة الغناء الغجري والعثماني والسوقي العامي، ومضت بعد ذلك مع ملحني قصائدها بل أعظم ملحني القصائد وغير القصائد في عصرنا كله وعلى رأسهم رياض السنباطي.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال