عندما حررتني سيمون من عيون ساندرا
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ليلة أحد شتوية أوائل التسعينات، الأب مستغرق في متابعة نشرة أخبار التاسعة على القناة الأولى، الجميع يجلس في تملل ينتظر تحرير التليفزيون من قبضته، الوقت بطئ لا يمر، المنزل شبه خالي من الجيل الأول في العائلة، الأخ الأكبر يقضي فترة تجنيده، والثاني يعود منتصف الليل كعادته، والأخير أجبره الصداع على النوم مبكرًا، الفرصة سانحة لنا نحن الجيل الثاني في العائلة للفوز بسهرة لطيفة نختارها بعيدًا عن ديكتاتورية الكبار.
تحاول الأم إفساد المخطط بأكمله بغلق التليفزيون بعد انتهاء النشرة، والتنبيه على النوم مبكرًا حتى لا تضطر إلي الصياح مبكرًا من أجل إيقاظنا للذهاب إلي المدرسة، أحاول أقناعها بهدوء أننا ندرس هذا الشهر في الفترة المسائية ولا حاجة لنا للصحو مبكرا، لا تدخل معي في جدال فقد نال منها التعب، فتذهب إلي إعداد العشاء.
تنتهي النشرة ويغلق التليفزيون مع فرمان أبوي معتاد بخلود الجميع إلي النوم، تؤكد الأم على الأمر لكن بعد الانتهاء من وجبة العشاء التي لا يفضلها الأب ، ننتظر قليلًا حتى نتأكد أنه دخل في نوم عميق، تبدأ عملية الاستيلاء على التليفزيون بنقله إلي غرفتنا، نقطع وعد مع الأم بإعادته فور الانتهاء من السهرة.
المضحك في الأمر أن التليفزيون كان يحتوي على قناتين فقط، الأولى التي يمقتها جيلي لطابعها الإخباري الممل، والثانية حيث المنوعات والبرامج الترفيهية وهي القناة المفضلة دائمًا، تطل مذيعة الربط “خديجة خطاب” لتعلن عن برامج السهرة التي ستبدأ ببرنامج العالم يغني النافذة الوحيدة المتاحة لنا على الأغاني الغربية.
يبدأ البرنامج بتتره الشهير وصوت الساكس الذي يميزه، أحاول أخفاء ضحكة بدت على وجهي كلما تذكرت عدد المرات التي حاولت فيها كتابة كلمات ساخرة على التتر وفشلت، تظهر المذيعة “حمدية حمدي” بملامحها الجادة وطريقة نطقها المميزة والمضحكة أحيانًا للإنجليزية، تعلن عن أغنية لفريق ABBA سرعان ما تتحول إلي الأغنية الشهيرة Life Is Life لفريق Opus ومطربها الذي يشبه لاعب الكرة الألماني رودي فولر، ثم تبدأ في سرد بعض المعلومات عن المطربة الألمانية Sandra والتي ستذيع لها أغنية Stop For Minute.
لم تحمل ساندرا جمال الألمان التقليدي، أو يبدو أننا كنا نملك أفكارًا نمطية عن الجمال الغربي وقتها، فتاة ببشرة تتأرجح ما بين الأبيض والخمري، ولون شعر مزيج ما بين البني والأشقر، حاجبان ثقيلان بعض الشئ وأنف بارز وواضح، غمازتين تظهران على استحياء، جسدًا رشيقًا يقترب من النحافة مع وفرة في الطول، لكن أهم من كل ذلك عيناها الواسعة التي تشع سحرًا وجمالًا جعلتني انسى كل شئ لأغرق فيها.
أفلت لساني ولمحت لإعجابي الشديد بها، هذا الأمر الذي جعل أخي الذي يسبقني بعامين يبدأ في وصلة تنمر معتادة منه عما أحب أو أكره، لم يشغلني ما يقوله وكأني كتمت صوته واستغرقت أكثر لأسال نفسي عما أعجبني في تلك الملامح التي تبدو جادة جدًا، هل لأني احمل نفس الجدية على وجهي عندما أتحدث، وهل لأننا نتشارك في نفس الحواجب الثقيلة نوعًا ما، هل لأنها طويلة، لم أجد سببًا واضحًا سوي أن عيناها كانت تحمل جمالًا غريبًا جعلني أتناسى كل ما يقوله أخي الذي كان يتملل من الأغاني الغربية، ومجبر الالتزام بالاتفاق بيننا على أن نذهب إلي القناة الأولي بعد أن ينتهي البرنامج حيث ينتظر برنامج “هذا المساء” الذي يقدمه سمير صبري!
أقرًا أيضًا .. ما لاتعرفه عن أشهر تترات برامج الثمانينات والتسعينات.
صار ميعادي الأسبوعي معها كل أحد في العالم يغني، أحيانا كانت تأتي وأحيان كثيرة لا تظهر، فكرت كثيرًا في مراسلة البرنامج وطلب تثبيت أغنية أسبوعيًا لها، في وقت كان المتاح لي هو التليفزيون فقط، كان أحيانا تفاجئني بالحضور في استراحة المباريات في وقت لم يكن هناك استوديوهات تحليلية ولا كابتن متحت، وكأنها تقدم اعتذارا عن غيابها الذي طال، أصبحت مسار سخرية من الجميع الذي لم يرى فيها أي مسحة جمال، غير عابئين بمشاعري التي تحركت لأول مرة في حياتي كصبي يخطو خطواته الأولي في عالم المراهقة، لم يفهموا أو يدركوا أنني لم أختارها طواعية، عيناها هي من اختارتني وأصرت على أن أغرق فيها حتى الثمالة.
بدا لي هذا الجيل غليظ القلب جاف المشاعر، صرت اكره الجلوس معه، جيل ديكتاتوري يمنح لنفسه الفرصة للتعبير عن إعجابه الشديد بالممثلة الفلانية أو لاعبة التنس العلانية، ويسخر أن عبرت أنا عن مشاعري التي صرت مجبرًا على كبتها، ويبدو أني كنت أبحث عن المستحيل فلا مجال لأن ألقاها سوي في خيالي، ويتحكم في مصيري معها معد برنامج يبدو هو الأخر لا يملك أي مشاعر كي أنتظر الأحد من كل أسبوع وأنا على شفا جمرة من القلق والتوتر، مرة يمنحني السعادة ومرات كثيرة يردني تعيسًا،لم يعد يحتمل قلبي مزيدًا من الغياب ومزيدًا من السخرية، لا أريد أحد يتحكم في مشاعري أو يتلاعب بها، لابد من سبيل للخروج من هذا المأزق.
في ظهيرة أحد الأيام أذهب للبحث عن أحد أخوتي لأجده عن صديق له، الذي يرحب بي ويدعوني للجلوس معهم، أتصفح علب شرائط كاسيت متناثرة جانب جهاز التسجيل، أجد ألبوم “ألو” للمطربة سيمون، كان كل معرفتي بها تتلخص في أنها التي تغني بخفة و دلع مقدمة برنامج “تاكسي السهرة”، استأذنت أن أقوم بتشغيل الشريط، لأجده على أغنية “ماشية وساعتي مش مظبوطة” والتي كنت أعرف موسيقاها جيدًا حيث كانت تستخدم في أحد إعلانات مستحضرات التجميل، بدأت الدندنة معها وأنا أتصفح عناوين الأغاني من على غلاف الشريط.
عندما دققت في ملامح صورتها على الغلاف طلت منها ساندرا، نفس الحاجب الكثيف ولون البشرة والشعر تقريبًا، لكنها تملك عينان أكثر سحرًا وجمالًا، تغني بتلقائية دون تكلف أو اصطناع، تشعر بانطلاق وحيوية في أدائها، على العكس تمامًا من ساندرا التي تؤدي بثبات وجدية أكثر، رغم أني وقتها كنت اسمعها لا أشاهدها، لكني شعرت بأنها موجودة تحتل المكان بشقاوة صوتها والبحة التي تميزه.
يحاول القدر مصالحتي قدر الإمكان فعندما أعود أجد برنامج “أماني وأغاني” لأشاهدها مع حميد الشاعري في كليب “بتكلم جد” بإطلالة عفوية غير مألوفة دون مساحيق تذكر، تغني وكأنها جالسة معنا بملابس البيت، طبيعية شقية متمردة تجيد التلاعب بنظرات عينها بشكل مدهش، صوتها يمنحك الحياة والحرية والانطلاق.
ظلت سيمون معي طول الوقت، جمعت لها أكبر قدر من البوسترات، كل ألبوماتها تقريبًا، لست مضطرًا لان أنتظر أحد يمنحني الحق في أن أشاهدها، شعرت معها بالحرية ولازلت حتى الأن اعشق عيناها التي حررتني من عيون ساندرا.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال