تاريخ مجمع التحرير .. نبوءات حذرت منه قبل افتتاحه فأسفرت عن 70 سنة أزمات
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
جاء شهر ديسمبر ليكون رمز الصدفة شديدة الغرابة في تاريخ مجمع التحرير بمصر، ففي ديسمبر من العام 1952 م بدأ العمل فيه بكل طاقة الوزارات، وبعد 69 سنة من عمل المجمع وفي نفس الشهر من سنة 2021 م أعلن صندوق مصر السيادي عن فوز تحالف 3 شركات دولية بتطوير المجمع.
15 مليون طوبة على أكتاف 4 آلاف عامل لمبنى تغير اسمه 3 مرات
وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في سبتمبر عام 1945 م وبعد عامين وتحديدًا في مارس 1947 م قرر الإنجليز إخلاء ثكناتهم العسكرية عن منطقة قصر النيل، فجاءت فكرة الشباك الواحد التي تتمثل في إنشاء مبنى حكومي ضخم يضم كافة مؤسسات الدولة بهدف توفير الخدمات الحكومية للمواطنين، بالإضافة لتقليل نفقات استئجار العقارات للوزارات، إذ كانت أغلب الوزارات لها مقار تستأجرها.
وافق الملك فاروق عام 1949 على فكرة تخصيص أراضي سراي الخديوي إسماعيل التي كانت ثكنات عسكرية إنجليزية لتأسيس مبنى حكومي ضخم وفخم وعهد إلى وزارة الأشغال بتنفيذ المشروع.
أشرفت الإدارة العامة بمصلحة المباني التابعة لوزارة الأشغال على وضع تصميمات المبنى فتولى التنفيذ المهندس محمد كمال إسماعيل، ليرسم شكل المبنى مساحة 4500 متر زادت إلى 28 ألف متر ووصلت إلى 58 ألف، وارتفاع 55 متر لـ 14 دور بإجمالي 1365 غرفة.
في فبراير سنة 1951 م وبتكلفة 2 مليون جنيه بدأ بناء مجمع التحرير، حيث تم استخدام 1500 طن حديد و 3 آلاف طن إسمنت و 15 مليون طوبة.
انتهى بناء المجمع بعد سنة و 8 أشهر (أكتوبر 1952)، على يد 4 آلاف عامل من الحمالين والبنائيين والنجارين والحدادين وعمال الخرسانة والأعمال الصحية والرخام، وفي ديسمبر 1952 تسلمت الحكومة فعليًا العمل به.
في البدء لم يكن اسم مجمع التحرير بهذا الإسم وإنما كان اسمه الحالي هو الثالث له في 70 سنة، فأول تلك الأسماء كان مجمع الحكومة في ميدان الإسماعيلية، ومع افتتاحه بعد زوال النظام الملكي صار اسمه مبنى المجمعات في ميدان الحرية، وعقب توقيع إتفاقية الجلاء سُمِّي الميدان بـ التحرير ليكتسب المبنى الاسم من الميدان.
نبوءات التحذير التي تحققت على مدار 70 سنة
تعرضت الفكرة في حد ذاتها للانتقاد قبل شهر واحدٍ من عمل المجمع فجريدة أخبار اليوم قالت أن المهندسين أكفاء لكن المجمع سيكون عنق زجاجة تضم 5 آلاف موظف يستقبلون 1000 مواطن يوميًا (وهو رقم قابل للزيادة) إلى جانب آلاف المواطنين يوميًا في الميدان بين زوار المتحف ووزارة الخارجية ودار الإذاعة والجامعة الأمريكية، فضلاً عن سكان المنطقة.
تنبأت صحفية أخبار اليوم حينها بـ 3 أزمات، كانت الأولى خطورة الاختناق المروري، وهو ما تحقق لاحقًا، إذ شهد ميدان التحرير في الفترة بين 1986 و 1988 م عدد 63 حالة اختناق مروري.
أما الثانية فكان طريقة العمل الحكومي إذ أن المسئولين عن المصالح الحكومية لم يكونوا قد جهزوا أثاث مكاتبهم وقالت حينها «كيف تفرش مكاتب مبنى المجمع وستفتتح بعد شهر واحد، هل سيتركون كل مصلحة تحضر معها ما تشاء من أثاثها القديم وأغلبه يتنافى مع الصحة العامة، أم سيكون هناك أثاث بسيط جديد يتجمع إلى جوار دوسيهات الموظف التراب وخيوط العنكبوت والفئران».
وقد تحققت تلك النبوءة، فذلك الوصف أضفى جانبًا على طريقة العمل الحكومي في الانتقالات فكانت عقلية روتينية بلا تخطيط، فصار المجمع فيما بعد الرمز الضخم للبيرواقراطية المصرية كما وصفه جمال حمدان.
أما النبوءة الثالثة فتمثلت في الفكرة والموقع، إذ كانت مصر حينها في حالة احتلال ولم يتم جلاء الاستعمار عنها، وقالت الصحيفة أن الدولة لو تعرضت لهجوم فسيكون المجمع هدفًا ولو تعرض للأذى ستصاب كل الدولة بالشلل.
وقد تحققت هذه النبوءة هي الأخرى لكن بشكل مغاير، فلم يتعرض المجمع لهجوم حربي، وإنما تعرض لهجمات شغب في الفترة من 10 يوليو 2011 وحتى 25 فبراير 2013 م، جراء اشتباكات بين الباعة الجائلين والمتظاهرين تارة، وبين المتظاهرين والأمن تارة، وبين المتظاهرين وأنصار حازمون تارة، وبين الألتراس والأمن تارة، وفي كل مرة أُجْبِرَت الدولة على غلقه بضغط من الموظفين.
ما بين 2011 ومطلع 2013 تم إغلاق مجمع التحرير 6 مرات، فالعام 2011 شهد مرتين للإغلاق الأولى من يوم 10 يوليو حتى 13 يوليو، والثانية من 22 نوفمبر حتى 1 ديسمبر، وشهد عام 2012 غلقًا للمجمع مرتين الأولى في 24 فبراير وظل مغلقًا لـ 29 فبراير، والثانية من 25 نوفمبر حتى 12 ديسمبر، وشهد عام 2013 غلقه مرتين، الأولى في 24 يناير حتى 26 يناير، والثانية من 8 فبراير حتى 25 من نفس الشهر.
لغز تبعية وتطوير رمز البيرواقراطية .. أشهر أزمة في تاريخ مجمع التحرير
على مدار سنوات تاريخ مجمع التحرير تأرجحت ملكية وتبعية مجمع التحرير بين مؤسسات الدولة دون أن تتولى مؤسسة بعينها مهمة الصيانة والتطوير.
فمنذ الموافقة على تأسيسه كانت تبعيته لوزارة الأشغال، ثم انتقلت إلى وزارة الشئون البلدية سنة 1951 وظل معها حتى سنة 1960 م، لتنتقل التبعية إلى محافظة القاهرة كإشراف وليس ملكية، أما صيانة المجمع أو تطويره فلم يكن مسؤولاً عنها أي مؤسسة وكل ما كان يحدث فيه من تجديد أو صيانة كان يتوقف على إمكانيات الوحدات الحكومية الشاغلة له.
جاء يوم 24 يناير 1985 م مع حملة صحفية أسبوعية قامت بها جريدة الجمهورية على مدار 3 أشهر لتقديم فكرة مشروع بعنوان «تفريغ وسط القاهرة .. نحن نسعى وراء هذا الحلم»، وكانت الحملة تستهدف تطوير منطقة وسط القاهرة ونقل مجمع التحرير.
ومع تصاعد الحملة جاءت فكرة نقل مجمع التحرير ولقيت رفضًا من جانب الإداريين بالمجمع الذين قالوا الموت ولا النقل.
ولأول مرة في تاريخ الحركة الحزبية قدم إبراهيم شكري رئيس حزب العمل مشروعًا لتنفيذ عاصمة جديدة لتخفيف العبء.
استمرت الحملة حتى 28 مارس 1985 م وأسفرت تلك الحملة عن جدلٍ بين مؤيد ومعارض، وأسفرت عن تأييد توفيق الحكيم لتأسيس عاصمة جديدة بعد نقل مقار الحكومة لها وتفريغ مجمع التحرير.
لم يحدث شيء حول تفريغ وسط القاهرة أو إخلاء مجمع التحرير، ليجيء العام 1993 م وتتشكل لجنة لتطوير مجمع التحرير بعد 40 سنة من تأسيسه برئاسة اللواء محمد يوسف نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية.
حينها تم وضع خطة تطوير على 4 مراحل، الأولى لتطوير الحمامات بميزانية وصلت لـ 316 ألف جنيه، والثانية بمبلغ 475 ألف جنيه من موازنة 1992/1993 لتغيير كابلات الكهرباء ومواسير الصرف ودهان الممرات الرئيسية، أما الثالثة فكانت بـ 450 ألف جنيه من ميزانية وزارة التخطيط لتأمين المبنى ببوابات الكترونية وبناء خزان ماء، ثم تم تخصيص مليون و200 ألف جنيه لإنشاء مكاتب وتطوير المصاعد.
بعد مضي 53 سنة على عمل مجمع التحرير وبالتحديد في سبتمبر 2005 م بدأ التوجه الحكومي إلى إخلاء منطقة وسط القاهرة بما في ذلك المجمع، وكان ذلك التوجه هو الأول من نوعه رسميًا في تاريخ مجمع التحرير منذ افتتاحه.
كان مشروع الإخلاء يقضي بنقل بعض إدارات ماسبيرو إلى مدينة الإنتاج الإعلامي، ونقل مقر الجامعة الأمريكية من ميدان التحرير إلى القاهرة الجديدة، أما المجمع فكان إخلاءًا له من العمل ونقل كل مقار الحكومة لأماكن بديلة بهدف تخفيف الحدة المرورية، مع نفي حكومي لتحويل المجمع إلى مشروع استثماري خدمي أو فندقي أو سياحي.
مع الاعتراض على فكرة الإخلاء تراجعت حكومة أحمد نظيف في 19 أكتوبر 2005 عن فكرة إخلاء المجمع بحجة تأجيل تنفيذ القرار إلى سنة 2006 لحين إيجاد بديل لتلك الأجهزة الحكومية، وهو الشيء الذي لم يحدث بشكل فعلي وعملي إلا في سنة 2021 م.
العام 2021 .. آخر فصل في تاريخ مجمع التحرير
كان يوم 03 سبتمبر 2020 م هو الفصل قبل الأخير في تاريخ مجمع التحرير حين صدر القرار الجمهوري رقم 459 لسنة 2020 م والذي يقضي بإزالة النفع العام عن 7 أماكن من ضمنها مجمع التحرير وتخصيصها لصندوق مصر السيادي.
وجاءت بداية نهاية تاريخ مجمع التحرير بشكله المعروف على مدار 70 سنة يوم 3 مارس سنة 2021 م بإخلاء مجمع التحرير بشكل نهائي وكامل، وظلت عملية الإخلاء حتى يوم 11 مارس من نفس العام، وفي 4 نوفمبر من نفس العام استعرض رئيس الجمهورية نماذج تطوير مجمع التحرير، وبعد شهر وبالتحديد في 6 ديسمبر 2021 م وقع رئيس الحكومة عقد الانتفاع مدته 49 سنة مع التحالف الفائز بتطوير وإعادة تأهيل مجمع التحرير وهو تحالف أمريكي يضم 3 كيانات هي مجموعة غلوبال فينتشرز، ومجموعة أوكسفورد كابيتال، وشركة العتيبة للاستثمار.
وتهدف عملية تطوير مجمع التحرير إلى جعله مبنى متعدد الاستخدامات فندقيًا وتجاريًا وإداريًا وثقافيًا، وتتم عملية التطوير منتصف 2022 م وبعد سنتين يتم تشغيله بحق الانتفاع الذي يشمل بعض الالتزامات تجاه مالك الأصل وهو الصندوق السيادي الذي يحصل على دفعات سنوية وشراكة على مستويات التشغيل، والصندوق مساهم بحصة أقلية في شركة التطوير لإتاحة أكبر فرصة لدخول استثمارات القطاع الخاص، وتصل إجمالي الاستثمارات التي سيتم ضخها في عملية التطوير إلى 3.5 مليار جنيه.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال