همتك نعدل الكفة
285   مشاهدة  

الحاجة نعمة

الحاجة نعمة


– ممكن تقعديني مكانك وتقعدي انتي على كرسي الكمسري ؟
هكذا قالت لي في ترام رأس التين تلك العجوز البدينة، بوجهها المستدير الذي قد امتلأ بالتجاعيد وكأن الزمن قد أمسك بتلابيبه، وخصلات شعرها البيضاء الكثيفة الشعثة التي تلوذ بحجابها الأسود، تشي ملامحها وعينيها العسليتين بجمال أخاذ في صباها، ترتدي عباءة سوداء متسخة، تتزاحم الأتربة وتحتشد فوقها، تحمل كيسًا صغيرًا وضعته بجانب قدميها على أرضية الترام.

من عادتي عندما تتوقف الترام أن أتطلع في وجوه الناس الجدد حولي، لعلي أجد امرأة عجوز أو أم تحمل طفلها أو سيدة حبلى كي امنحهن مقعدي، ولكن تلك المرة سهوت في الكتاب الذي كان بين يدي، ربما هو القدر قد جمعنا لأخبركم بقصة الحاجة نعمة.

– تعالي يا حاجة اتفضلي….
قلت وأنا اقفز على كرسي الكمسري.

جَلستْ وقد بدا الإرهاق على وجهها وعضلاتها، تلهث كأنها تسير في طريق منذ الآف السنين.
قالت : معلش أنا مش حقدر انط زيك كده..ربنا يحميكي لشبابك…أنا اصلي كنت بقبض المعاش بتاع الارامل..كان 27 جنيه ايام مبارك..زودوه خلوه 230…..معرفش بقي حيزودونا اليومين دول ولا ايه..بس أنا سامعة ان فيه زيادة..ان شاء الله تنزل !

ابتسمت لها ابتسامة صفراء وقلت في نفسي : دي اكيد بتقول اسطوانات عشان تشحت..
كدت أدفع لها ثمن التذكرة لكن شئ ما منعني فتراجعت، واكتفيت بالتربيت على كتفها ووضعت وجهي في كتابي.

بعد بضعة محطات ركبت سيدة أخرى، ثلاثينية راقية، معها صبيان في عمر الثالثة عشر والتاسعة تقريبًا، دار حوار مع كمسري الترام لانها لا تملك في حقيبتها غير مائة جنيه، وكان ثمن التذاكر 6 جنيهات، أخبرته السيدة وهي تجلس بجوار العجوز :
– والله أنا مش من هنا، أنا من طنطا ورايحة القلعة عشان افسح الولاد، وناس قالولي اركبي الترام وأنا معرفش اسعار المواصلات..

قاطعتها العجوز قائلة :
_ متضايقيش نفسك ..الحاجة نعمة حتحلها !

تناولت العجوز كيسها من على الأرض وأخرجت كيسًا بلاستيكيًا أصغر منه به فكات وبضعة جنيهات، ثم اخرجت منه 6 جنيهات ووضعتهم في يد الكمسري، وبالطبع رفضت السيدة رفضًا باتًا وهي تقول في خجل:
لا والله أنا حنزل افك ف اي محطة !!

قالت الحاجة نعمة:
انتي ضيفتنا مينفعش كده..وبعدين ده كله من عند ربنا !

ثم أخرجت كيسًا آخر به بعض قطع البونبوني، وناولتها هي والصبيان ووضعت في كف الكمسري بعضًا منها، ووضعت في كفي أنا أيضا، وجلسنا نتحدث، حتى اوشكت محطتها على القدوم، فقالت وهي تنهض وتستعد للنزول :
تعالوا اتغدوا معايا بقي..حجيب شوية سمك حيعجبوكم والله.

فمازحها الكمسري قائلا وهو يضحك :

المرة الجاية يا حاجة نعمة…..بس أنا عايز سمك مشوي..

ضحكنا جميعًا وشكرناها ونزلت.

كنت أنظر إليها وهي تعبر الجهة المقابلة من الشارع وأنا اؤنب نفسي لأنني لوهلة اعتقدت أنها تتسول، واكتشفت أنني أنا من أتسول من الحاجة نعمة ومضات من الإنسانية والرحمة، واكتشفت حقيقة أن الفقراء هم أكثر الناس كرمًا وجودًا واحسانًا وعطاءً وقناعة.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان