همتك نعدل الكفة
772   مشاهدة  

اللحظات الأخيرة  في حياة السياسي الداهية أحمد حسنين باشا

أحمد حسنين باشا


رغم مرور أكثر من خمسة وسبعون عاما على وفاته في حادث مروع على كوبري قصر النيل، إلا انه لا يزال أحمد حسنين باشا، الرحالة عاشق الصحراء والطيران، ثعلب السياسة المحنك، ورائد الملك فاروق ورئيس ديوانه في ذاكرة المهتمين بتاريخ مصر الحديث .

أحمد حسنين باشا

كتب مصطفي أمين مقالا في مجلة آخر ساعة عام 1950 في الذكرى الرابعة لوفاة أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي قال فيه :

كنت أقلب في أوراقي القديمة فوجدت ورقة مطبوعة باللغة الإنجليزية وقد كتب في ظهرها ما يلى :

( أعطاني حسنين باشا هذه الورقة  في فبراير عام 1943 وقال لي فيها سأعطيك نصرا صحفيا، وهذه وصيتي(.

حدث ان اصيب حسنين بذبحة صدرية وتوقع الاطباء موته وذهبت اليه في فراشه فأعطاني ورقة وهو يقول: سأعطيك نصراً صحفياً، هذه وصيتي وتأملت الورقة وقلت له: هذه قصيدة الشاعر الانجليزي كيلنج، قال حسنين : إنها عندي من سنة 1913 وقد قرأتها آلاف المرات وحاولت أن أجعل حياتي تسير على هداها، وأن تكون تصرفاتي على منوالها، وقال حسنين اذا كانت هناك وصية لمن بعدي، لمن أحبهم، فهذه القصيدة وصيتي ولو مت فستكون حياتي قصيدة ناقصة.

قلت له ضاحكا: ستعيش حتى تتم القصيدة، فضحك وقال خذها على كل حال، وقد مرت سبع سنوات كان حسنين رئيس الديوان ملء السمع والبصر.. واليوم أصبح حفنة من تراب..

تقول كلمات القصيدة :

إذا استطعت ان تحتفظ برأسك في الوقت الذي يفقد فيه من حولك رؤوسهم وينحون عليك باللائمة.

اذا وثقت في نفسك حين يشك فيك الجميع، ومع ذلك سامحتهم لأنهم شكوا فيك.

اذا استطعت ان تنتظر ولا تمل الانتظار ولم تقابل اكاذيب الناس بالأكاذيب.

اذا كرهك الناس فلم تكرههم واذا تظاهرت بأنك لست احسن الناس ولا احكم الناس.

اذا استطعت ان تحكم دون ان تسيطر عليك احلامك وان تفكر ولا تجعل التفكير هو كل اهدافك.

اذا استقبلت النصر كما تستقبل الهزيمة سواء بسواء واذا استطعت ان تتحمل نتيجة اعمالك وان تشهد المعول يهدم كل ما كرست من اجله حياتك وتنحني لتبني من جديد ما تهدم.

اذا استطعت ان تجعل كل انتصاراتك نصراً واحداً ثم تغامر به وتفقده ثم تعود فتبدأ من جديد بغير ان تتحسر علي ما فقدت وما تعبت.

اذا صبرت في وقت لا تملك فيه سوي ارادتك تصرخ فيك وتهيب بك ان تتماسك.

اذا استطعت ان تتحدث الي الشعب بغير ان تفقد فضائلك وان تصاحب الملوك بغير ان تفقد اتصالك بالشعب.

اذا استطعت ان تمنع الاعداء والاصدقاء ان ينالوا منك او ان تحسب لكل انسان حسابه ولكنك لا تخشي الناس مجتمعين.

اذا استطعت ان تملأ فراغ كل دقيقة من حياتك بالعمل واذا كانت كل ثانية في عمرك تمضي في جهد يفيد.

اذا استطعت ان تفعل ذلك كله ملكت الأرض ومن عليها اصبحت اكثر من ذلك اصبحت رجلاً يا ولدي.

وأضاف مصطفى أمين: لقد كانت القصيدة قصة حسنين كلها، ومفتاح شخصيته كلها ولو ان الشاعر كيلنج وصف حسنين وعاشره لما عرف كيف يرسم صورته كاملة بكل هذه التفاصيل.. نعم.. لقد كانت حياة حسنين قصيدة خالدة .

وكانت موت حسنين مفاجأة درامية مثيرة كما كانت حياته !!

يروى لنا محمد التابعي في كتابه من أسرار الساسة والسياسة اللحظات الأخيرة من حياة حسنين

ذكر فيها أن حسنين قد أمضى سهرة يوم الأحد 17 فبراير 1946 في مسكنه ( أي التابعي ) مع بعض الأصدقاء ومنهم أم كلثوم .. وغنت أم كلثوم سلوا قلبي وحمل حسنين مقعدا صغيرا جلس فيه بين يدى أم كلثوم وكان ينصت لها بكل جوارحه ، وامتدت السهرة حتى مطلع الفجر يوم الأثنين الموافق 18 فبراير 1946 .

وفى يوم الثلاثاء 19 فبراير كان حسنين مدعو لتناول الغذاء عند أسرة صديقه في المطرية .. ولكن تراكم الأعمال أبقاه في مكتبه بقصر عابدين إلى الساعة الثالثة بعد الظهر .. ورأى حسنين أنه تأخر عن الموعد فاعتذر لأصحاب الدعوة بالتليفون .

وأستقل سيارته عائدا إلى داره بالدقي .. وكانت السماء تمطر .. وبينما كانت سياراته تجتاز كوبرى قصر النيل في طريقها الى الدقي أقبلت سيارة لورى بريطانية من الجهة المضادة .. وانزلقت عجلات السيارة بفعل المطر .. ولفت اللورى نصف لفة على الكوبرى وصدمت سيارة حسنين من الخلف صدمة شديدة .

وسمع سائق السيارة صوت حسنين باشا خلفه وهو يقول : “يا ساتر .. يا ساتر يارب “

وألتفت السائق خلفه فرأى الدم يسيل من فم حسنين وأوقف السائق السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة ومرت مصادفة في نفس اللحظة سيارة وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة في أوكسفورد .

وأسرع أحمد عبد الغفار وحمل صديقه إلى مستشفى الانجلو امريكان القريب من مكان الحادث ولكن حسنين كان أسلم الروح فنقلوه إلى داره .

وخرجت صحف مصر  والعالم في اليوم التالي تحمل أخبار الحادث الذي راح ضحيته أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي عن عمر يناهز 57 عاما .

ونشرت جريدة «المصري» تفاصيل إضافية لوصف الحادث:

“خرج رفعة أحمد حسنين باشا في الساعة الثالثة أمس من قصر عابدين العامر قاصداً منزله في سيارته، وكان رفعته عائداً وحده بينما كان السائق عبدالحميد على شرف يقود السيارة. ولم يكن صاحب المقام الرفيع يعلم وهو يجتاز طريقه عبر ميدان الفلكي ثم ميدان الخديو إسماعيل أنه يعبر هذا الطريق للمرة الأخيرة في حياته، ولم يكن يدور في حساب أحد أن القدر قد دبر بعد دقائق من مغادرته مقر عمله حادثًا غريبًا” ..

ونشرت الجريدة أقوال سائق سيارة أحمد حسنين باشا ويدعى عبدالحميد شرف والذى أضاف شيئًا مهمًا وهو أن التصادم من شدته ألقى حسنين باشا فى دواسة العربية، يقول: «حملته على صدري وكان مغمى عليه ولايزال يتنفس فناديته: يا باشا يا باشا! فلم يرد علىَّ. ولاحظنا أن دماً يتساقط من فمه وأزعجني أنه لا يرد على ندائي بالرغم من أنه حي وتجمع أفراد كثيرون فرجوتهم دعوة الإسعاف.. وأقبل أحد الإنجليز وطلب أن ينقل الباشا في سيارته فرفضت لأنى لا أعرفه، ولكن أقبل على إثر ذلك عبدالغفار باشا والذى نقل الباشا إلى مستشفى الأنجلو.

ولم يمض على الحادث والنقل للمستشفى غير دقائق – كانت عشر دقائق تقريباً، لكنها كانت كافية لأن تفيض روح حسنين باشا، ويظهر أن تأثير الصدمة القوية على الرأس حيث النزيف ثم على القلب، لم تتمكن الشرطة ولا النيابة في هذا التوقيت من استجواب سائق اللورى الإنجليزي، حيث تم نقله مصاباً إلى أحد المستشفيات العسكرية .

وقد طالبت الحكومة المصرية من الحكومة البريطانية بتعويض عن حادث مصرع أحمد حسنين فأرسلت القيادة البريطانية بعد سنتين من الحادث شيكاً بمبلغ 1250 جنيهًا إلى الحكومة تعويضًا لأسرة حسنين اعترافاً منها بمسؤوليتها عن القتل الخطأ.

وقد قامت الصحافة بعمل تغطية واسعة عن الفقيد، فكتبت «المصري» :

إقرأ أيضا
متبقاش حنبلي

كان رفعة المغفور له أحمد حسنين باشا قد استيقظ من نوم صباح أمس مبكراً ثم قضى بعض الوقت في الاطلاع على الصحف وتناول طعام إفطاره كعادته وقبيل الساعة العاشرة استقل السيارة إلى القصر الملكي، حيث صعد إلى مكتبه ووافاه بعض كبار رجال الديوان الملكي وكبار رجال القصر وعرض عليه صالح يونس بك، مدير مكتبه، وبعض موظفي السكرتارية الأعمال التي من شأنها العرض عليه يوميًا، وعند الساعة الحادية عشرة والثلث استقل السيارة من قصر عابدين العامر وقصد إلى وزارة الداخلية، حيث قابل دولة إسماعيل صدقي باشا، رئيس الوزراء ووزير الداخلية، في مكتبه ودامت المقابلة أكثر من نصف ساعة.. ولما بارح مكتب صدقي لم يشأ أن يتخذ المصعد في النزول، وعند الساعة الثالثة والثلث ركب السيارة وسارت به في طريقها قاصدة منزله في الدقي مجتازة شارع الخديو إسماعيل وميدان الأزهار وميدان الخديو إسماعيل فكوبرى الخديو إسماعيل وفى نهايته من الناحية الغربية وقع الحادث المشؤوم.. ولم يتناول حسنين باشا غداءه حيث كان ملتزمًا تناوله في منزله مع أسرته.

حامت الشكوك في مقتل حسنين باشا حول السير ما يلز لامبسون السفير البريطاني بالقاهرة لأن أحمد حسنين باشا قد تسبب في نقله من مصر بعد ان حاصر السير لامبسون الملك فاروق في حادث 4 فبراير 1942 الشهير .

وطار الخبر إلى القصر وأسرع الملك فاروق وكان يرتدى بيجامة وفوقها ( روب دي شامبر ) وفى قدميه شبشب – أسرع بملابسه هذه وأستقل إحدى سياراته إلى دار حسنين في الدقي .

ووقف فاروق لحظة أمام جثمان حسنين رائده وأستاذه ومربيه ثم رئيس ديوانه .

ثم قال : ” مسكين يا حسنين ” وسأل بعدها عن مفاتيح مكتب حسنين وتناولها ودخل غرفة المكتب وأغلق وراءه الباب وكان فاروق يبحث عن أية مذكرات يكون حسنين قد كتبها وعن عقد زواجه بأمه الملكة نازلي وعن أية أوراق هامة أخرى قد يكون تركها وراءه .

كمابادر الملك فاروق فور علمه بخبر الوفاة إلى منح الفقيد وشاح محمد على الأكبر.. وهو أرفع درجات الأوسمة في مصر الملكية..

وصار نص البيان الملكي هكذا: «تعطف حضرة صاحب جلالة مولانا الملك المعظم فأنعم بالوشاح الأكبر عن نيشان «محمد على» على اسم المغفور له حضرة صاحب المقام الرفيع أحمد محمد حسنين باشا، رئيس ديوان جلالة الملك، إشارة بما للفقيد العظيم من رفيع المكانة وكبير الاعتبار وتقديراً لما كان عليه من شدة الولاء والإخلاص أميناً ورائداً ورئيساً لديوان جلالته وتنويهاً بما قدمه للبلاد من أشرف الخدمات».

ونقلت لنا جريدة المصري تفاصيل مراسم الجنازة : «أربعون موتوسيكل لحراسة جثمان الفقيد»، الذى سيوضع على عربة مدفع .. وقد تفضل جلالة الملك فأمر بأن يسير في الجنازة مندوبان عن جلالته وكبير الياوران أيضًا، كما أمر بأن تشترك في الجنازة جميع قوات الحرس الملكي من الفرسان والمشاة وتوضع نياشين الفقيد وأوسمته على أربع وسائد يحملها مندوبون من الجيش والتشريفات الخاصة والديوان ويوضع السيف والقلادة على النعش.. وقد صدرت أوامر رئاسة الجيش بأن يشترك فى تشييع جنازة المغفور له جميع الضباط الحاليين من الخدمة ولا يبقى فى الثكنات إلا الخدمات الضرورية جداً وعلى حضرات الضباط أن يكونوا موجودين الساعة الثانية والنصف بعد الظهر فى ميدان الإسماعيلية، ويقابل سعادة رئيس إدارة الجيش أصحاب العزة قادة الوحدات والأسلحة هناك فى هذا الموعد. وملبس وهيئة المكتب الطربوش والقايش الجلد. وتزخر صحافة هذا اليوم أيضًا بالإجراءات التي ستتبعها محافظة القاهرة مع كبار المشيعين وخاصة رؤساء الهيئات السياسية الأجنبية، ورغم الخلاف السياسي بين زعيم الوفد مصطفى النحاس والفقيد أحمد حسنين إلا أنه أوفد مندوباً عنه لحضور الجنازة.. حيث شارك الأستاذ أحمد حمزة، عضو الوفد المصري، كما تم تكليفه من النحاس باشا بإبلاغ أسرته خالص عزائه ومواساته.

أما الذين ذهبوا فعلياً إلى منزل أحمد حسنين باشا بالدقي عقب الوفاة – إضافة إلى الملك فاروق – «فقد ذهب إلى منزل رفعته الأمراء والنبلاء والعظماء والكبراء وفى مقدمتهم حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد على ومحمد طاهر باشا والأميرة شويكار – ورئيس الوزراء ودولة النقراشي باشا وحسين الهامى باشا والوزراء ورئيس النواب وكبير الأمناء وناظر الخاصة الملكية ورجال القصر الملكي وكبار رجال القضاء وسفير إيران وممثلو الدول الشرقية وكبار الأعيان ورجال الإدارة في الجيزة وعلى رأسهم مديرها».

دفن أحمد حسنين باشا مرتين، الاولى بعد وفاته في  1946 في مقبرة الأسرة “بقرافة المجاورين”

 والثانية بعد أن أصدرت الحكومة المصرية برئاسة محمود فهمى النقراشي باشا رئيس الوزراء قرارا بإقامة ضريح يليق بمكانة أحمد حسنين وتقديرا لمجهوداته التي قدمها في خدمة بلاده ورغبة منها في تخليد ذكراه .

و تم نقل جثمانه إلى الضريح الحالي بعد أربع سنوات وأشرف على عملية النقل حيدر باشا وأحمد عبدالغفار باشا وعثمان المهدى باشا وطارق نجل أحمد حسنين وابن أخته محمود على رمضان، وتولى القيام بنقل الرفات 15 جنديًا من رجال البحرية الملكية وثلاثة ضباط.

يقع ضريح أحمد حسنين باشا الحالي بقرافة المماليك في شارع صلاح سالم بالقاهرة أمام مشيخة الأزهر مباشرة بالدراسة وصممه صهره المعماري الشهير حسن فتحي عام 1946 علي غرار المقابر المملوكية التي تحيط به.

وبذلك انتهت حياة السياسي الداهية الذى كان ملء السمع والبصر.. واليوم أصبح حفنة من تراب..

إقرأ أيضاً

“بشهادة من عاصروه” كيف ندم حسن البنا على عمل الجماعة في السياسة

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
5
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان