همتك نعدل الكفة
1٬082   مشاهدة  

المصيف.. المسرح.. البابا (وبالعكس)

المصيف
  • شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



وأنا عيل في منتصف التمانينيات، كان فيه حاجة إسمها الطبقة الوسطى.. وأسرتي كانت ساكنة هناك. أبويا كان ممثل، عمل أدوار ثانوية كتير منكم يعرف شكله بس غالبًا ماتعرفوش اسمه.. ممكن تفتكروا كام لزمة من لزماته، زي:

  • أركب الهوا.
  • اديله مية يديك طراوة.

بابا اسمه صلاح يحيى.

فلاش باك اقتصادي

في السبعينيات والتمنينيات البابا كان بيشتغل كويس، فبيكسب كويس، ما جعله ياخد قرار جرئ بإهمال وظيفته في شركة النصر للبترول والتفرغ للفن، ولما اتفصل من شركة البترول ماهتمش، إنما قدم أوراقه لهيئة المسرح.. وتم تعيينه في المسرح الكوميدي.

طبعًا الفرق على مستوى المرتب كان رهيب، بس الشغل في السينما والتليفزيون أو مسرح القطاع الخاص، خصوصًا مع الراحل سمير خفاجي، كان بيغطي الفرق ده ويزيد عليه كمان.

بس بابا لما خد القرار، الوظيفي، ده ماعاملش في حسابه ضربات القدر المتمثلة في مرضه، ولا تأثيرات المشهد السياسي العالمي، المتمثل في الحرب الباردة بين الأمريكان والروس، اللي بسببها الأمريكان دعموا الأفغان في حربهم ضد الروُس.

ولا جِه فـ خياله إن الدعم ده هينتج عنه مد ديني أصولي يأثر ع المجتمع المصري كله، بما فيه مجال شغله.. وحتى نظرة أهل بيته لشغله ده ووزنه بميزان الحلال والحرام، كما جاء في صحيح البترودولار. (راجع موضوع: أعلم أهل الأرض الذي خرب حياتي).

وده إن الدعم الأمريكي للأفغان كان عن طريق تكوين حلف من إقليمي من دول الشرق الأوسط برعاية أمريكا. والحلف ده خطته تحويل الحرب بين الأفغان والروس “إعلاميًا” لحرب دينية، حرب أحد أهم أسلحتها.. مشروع الصحوة الإسلامية، اللي النهارده المملكة نفسها بتشتغل على التخلص منه.

YouTube player

الصيف

نتيجة الإحتباس الحراري، في التمنينيات، ماكنتش واضحة بالفزع اللي عايشينه النهارده، ومفردات الحياة كانت لسه بيتم تحريمها تدريجيًا، فالطبقى الوسطى -سالفة الذكر- كانت لسه بتعرف تنبسط بحياتها، ومن أهم مظاهر الانبساط “والفشخرة”… المصيف.

يعني الأُسر تسافر من المدن الداخلية إلى المدن الساحلية، تتفسح وتنبسط وتشوف البحر عادي جدًا، بدون أي رسوم أو حواجز أسمنتية.

فكانت الفرق الفنية المختلفة -بما فيها الفرق المسرحية- وحتى السيرك، حريصة على تقديم عروضها بمناطق تجمع المصيفيين. زي الإسكندرية وراس البر.

المصيف
ميمز خاص بالموضوع

موسم الصيف

الصيف “كان” موسم ثابت لسوق الفن والثقافة والترفيه، والموسم ده “كان” مقره مصر مش أي مكان تاني في الشرق الأوسط، دراما.. ندوات.. حفلات.. الساحر مدحت.. إلخ إلخ إلخ.

وكان معروف شوية أعراف، زي إن تركيز العروض بيبقى في المصايف، وإنه موسم لاستقبال السواح العرب/الخلايجة المفتقدين للترفيه في بلادهم (خصوصًا السعوديين). وإنه فرصة لغالبية العاملين فيه -من طبقة أبويا- إنهم يجمعوا الأموال اللازمة لمواجهة كسوة الشتا وبداية العام الدراسي بمصاريفه الكتير. بس بالنسبة لبابا الحسبة كانت مختلفة، سبوبة العرض في المصيف دي “رزق فسحة العيال”، اللي هييجي منها بيتصرف فيها.

المصيف
جانب من البلبطة الأسرية

الصيف بالنسبة لأسرتي نوعين أو احتمالين، يا نطلع نصيف يا نقضيه في القاهرة، وده حسب رؤية الإنتاج.

في كل الأحوال بابا بيكون شغال في مسرحية بتتعرض خلال الصيف، لو الإنتاج قرر يهرب من المنافسة الكبيرة في مدن التصييف.. ويعرض في القاهرة، يبقى مافيش مصيف السنادي.. وهنسهر كل ليلة “تقريبًا” في أكتر مكان طراوة في القاهرة المسرح العايم فقلب نيل المنيل. أما لو الإنتاج قرر إنه جامد وهينافس، تبقى فُرِجَت وهنشوف البحر.

المصيف
المسرح العايم

المسرح

باختصار، المسرح كان البوابة للمصيف.. للبحر، وكان وجود المصيف من عدمه -وحتى مدته- مرهونين بخطة الإنتاج. طبعًا وقتها ماكنتش فاهم إنتاج من إخراج، بس كنت فاهم حاجة واحدة بس، إن المسرح هو اللي بيحدد إحنا (أسرة من 5 ثم 6 أفراد) هنصيف السنة دي ولا لأ.

ولو صيفنا، هو برضه بيحدد هنروح فين؟ وهنقعد قد إيه؟

غالبا كانوا مدينتين، إما الإسكندرية أو راس البر.

بيب بيب.. رينجو

راس البر كانت مدينة صغيرة وهادية.. وجميلة جدًا، نظام العشش أبهرنا جدًا، أهم معالمها اللي لا يمكن ننساها هي اللسان والطفطف.

اللسان ممشى عند التقاء النيل بالبحر، في نهايته نشوف المية العذبة وهي بتصب في المالح.

الطفطف وسيلة نقل جماعي تتميز بيها راس البر لغاية دلوقتي، وأشهر سواق طفطف عرفته المدينة هو “رينجو”، كان عامل حالة تناسب أجواء البهجة المرتبطة بالمصيف.

كان له لزمة بسيطة وشديدة التأثير، كل ما يمر على تجمع ولا يدخل محطة يضرب الكلاكس، بيب بيب.. فيهتف الناس بحماس ومرح باسمه: ريييييينجو.

المصيف
رينجو (صورة متداولة ع السوشيال ميديا منسوبة له)

الشاطبي

الإسكندرية هي المصيف الأهم والأشهر في مصر وقتها، مدينة كبيرة وعريقة جدًا، وبابا كان متعود يروحها لوحده كل شتا، فعنده فيها أصحاب مقربين، زي عم صلاح البقال وعم محمود المصوراتي.. وعم ميمي القاضي.

المصيف
بابا مع عم صلاح البقال – قدام المحل بتاعه

والتلاتة من الشاطبي أو كامب شيزار، فكنا كل ما نسافر إسكندرية ننزل هناك، نأجر شقة أو أوضتين في بنسيون، حسب مدة العرض والميزانية. بس على طول عم ميمي القاضي بيكون في انتظارنا، يسلم علينا ويسيب لبابا مفتاح الكابينة بتاعته الموجودة في شاطئ الشاطبي.

المصيف
ستوديو ذكريات الشاطئ لصاحبه محمود المصوراتي

صف كباين بأبواب خشب مدهونة كلها بالأزرق السماوي، دهان مشقق بفعل الرطوبة، مهمة الكابينة توفير مكان لتخزين شمسية وكراسي البحر مع ترابيزة لما يخرجوا يبقى فيه مساحة للشنط وتغيير الهدوم + مطبخ متناهي الصغر.

ميمي القاضي

كل اللي فاكره، أني كنت بحبه جدًا.. وفاكر إنه بحار، وهو كان يشيلني ويلاعبني، ولازم في أول مقابلة يديني شيكولاتاية.

كان لما ينادي عليا يقولي: “يا أبو صلاح يا صغير”، وطبعًا أهلي بينادوني باسمي، بس أنا في يوم، كنت حوالي خمس سنين، اخترت إن اسمي ميمي، على اسمه.

في اليوم ده قلت لهم كلهم: أنا ماسميش رامي.

سألوني: أمال اسمك إيه.

رديت: اسمي ميمي، زي عمو ميمي القاضي.

إقرأ أيضا
استون فيلا

وفضلت اليوم كله ماردش على حد إلا لو قاللي: يا ميمي، ومن ساعتها اسمي وسط العيلة بقى “ميمي صلاح”.

المصيف
بابا وميمي القاضي

 

بابا

بعيدا عن المرض اللي بابا ماعملش حسابه والسياسة اللي ماكنش مركز معاها، كان صلاح يحيى رجلًا فَيْيِّسًا.. مُحِّبًا للحياة، يُقدم الشهيصة عن الإدخار، فعاش زي السباع مش زي النمل، يصطاد فناكل كلنا ونهيص.. بس مافيش خزين لأيام الندرة.

صاحب مزاج يحب الفرفشة وقعدة الحظ، أهم حاجة عنده أسرته فالتمام.. والجو يكون فيه بهجة، بيصلي ويصوم بس وش الصحوة الإسلامية ماكلش معاه عيش، في ليالي الصيف يجيبلنا إحنا جيلاتي وهو يشرب بيرة ساقعة.

ماما، اللي هي مراته، كانت ست لبسها عادي جدًا، مناسب لربة منزل ساكنة في منطقة شعبية، طويل وبكم.. بعضه جاهز وبعضه هي مفصلاه بنفسها. وزي ما في العموم لبسها مناسب لمكانها الاجتماعي والجغرافي، كمان في المصيف اللبس المناسب لنفس العاملين، فكانت بتنزل معانا البحر بالمايوه القطعة الواحدة، وده كان بيحصل في الشاطبي عادي جدًا لحد التمنينيات.

المصيف
أنا وبابا ع البحر – عدسة عم محمود المصوراتي

الفشخرة

كان مجال الفشخرة بين الجيران بالنسبة للمصيف، هو مدة السفرية، والناس درجات والمصايف أرزاق.. من أول رحلة اليوم الواحد وصولًا للي بيقعدوا شهر.

غالبا كنا بنقعد أسبوعين (15 ليلة عرض)، وأحيانا يقلوا لعشرتيام (عشر ليالي عرض)، أو يزيدوا لـ3 أسابيع (20 ليلة عرض). لغاية ما فصيف من ذات الصيفيات الإنتاج تعاقد على 30 ليلة عرض بحالهم.

المصيف

الحلم يتحقق

فرحت قوي، أخيرًا إتحقق حلمي بشهر مصيف، كالعادة عمو ميمي القاضي استقبالنا، كخير افتتاح لشهر من البلبطة واللعب ع الشط.

يومها كان معاه نضارة بتقرب، كنت باقول عليها “نضارة مُعظَمَة”، كنت باشتري زيها من محلات اللعب، بس صغيرة وبلاستيك، إنما دي كانت “حقيقية مش لعبة” لما بصيت منها بقيت قادر أشوف جوه البحر أوي، ولما أبص منها بالعكس.. أشوف البحر بقى بعيد والناس قد النمل. كأي عيل صغير شَبَطّْ فيها زي القُرادة، وهو علمني أعمل زووم أكتر وأرجع تاني إزاي.

المصيف
النضارة المعظمة

الكابوس

بابا أو ماما طلبوا مني أخش “ألقم” الشاي أو أشوف البراد ع السبرتاية بيغلي ولا لسه، دخلت الكابينة ومش مبطل لعب بالنضارة، وفي لحظة ذكاء طفولي قررت أبص جوه البراد بالنضارة، بصيت من ناحية.. وأثناء ما بقلبها عشان أبص من الناحية التانية، خبطت في البراد قلبته من ع السبرتاية.

المصيف
كوميك فكرتي وتنفيذ ريمون صبري

البلاج كله أتلم على صوتي، ومكنة الإفتاء الشعبية اشتغلت بكامل طاقتها:

  • اكسروا عليها بيض ني بسرعة.
  • حط عليها معجون سنان قوام.
  • حد معاه زيت يا جماعة.
  • تلج يا جماعة.. تلج بس.

جنبي وفخدي اليمين تحولوا لفار تجارب للطب الشعبي، دقايق واتحركنا فورًا على أقرب عيادة أو مستشفى، مش فاكر. المهم أني أخيرًا تلقيت رعاية طبية حقيقية.. وروشتة طويلة عريضة، وقايمة تعليمات أهمها أني أبعد عن الشط نهائي لمدة شهر، لحد الحرق ما يلم.

بس رغم الحرق والصويت مع كل غيار ع الجرح، مابطلتش أحب إسكندرية والشاطبي أو كامب شيزار وعمو ميمي القاضي ونضارته المعظمة.

الكاتب

  • المصيف رامي يحيى

    شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
33
أحزنني
5
أعجبني
11
أغضبني
5
هاهاها
5
واااو
7


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان