عن أبي وخواجات الإبراهيمية
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تلعب الجارة اليونانية مع كلب العائلة “ريكس” وتجلس لتستمع لخطبة الجمعة مع جدتي في حين تمرح عمتي مع ابنة نفس الجارة وتتعلم منها الأرقام باليونانية. يجلس أبي مع صديقه أوري ثم يذهب إلى ستيف الذي كان يفتح لهما والده ميتسو عينًا سحرية على عالم سينما “أوديون” والذي كان مسؤولًا عنها بهذا الوقت. يتباهى أبي بصديقه الآخر ياني المسؤول عن سينما “لاجيتيه” ويقضي وقته مبتهجًا بين السينمات.
“الخواجات” باختلاف جنسياتهم يتفنون في زرع النباتات بالشرفات والاعتناء بها فتنشر البهجة بروح طيبة وتجعل المباني أكثر جمالًا لمرمى البصر. الجميع يتشاركون بهجة الأعياد باختلاف الديانات والتهاني مما يعطي المجال لأيام متفرقة من العام في إدخال السرور على الناس كلهم فيما تشارك جدتي بعيد الفطر في عمل كعك العيد وتوزعه على الجيران.
حي الإبراهيمية بالإسكندرية كان كلوحة عظيمة تحمل ألوانًا من البشر على أرضٍ واحدة يملأها الحب الذي يكسر حاجز اللغة ويجعل الناس يرون القلوب قبل أي شيء آخر. وقبل القلوب يرون الله بالأخلاق الحميدة والشهامة.
عائلة أبي كانت العائلة المصرية الوحيدة ببناية بها أكثر من عشر شقق حتى غادر الخواجات البلد كلها عن غير طيب خاطر بعصر عبد الناصر، كانت تحكي لي جدتي عن قصص وداع صديقاتها وتختمها بتنهيدة طويلة حزينة ونظرة شاردة تشتاق للماضي، ظلت تعيد على مسامعي هذه القصص بنفس الدمعة المتكررة المعلقة في عينيها حتى وافتها المنية.
تبقت الأسرة المصرية وحيدة بالبنانية حتى بدأت أرجل جديدة تسكنها. لم تكن بداية الجيران الجدد طيبة على الأسرة الصغيرة، فقد استخف بعضهم بالزرع الذي زرعه اليونانيون فرموه من الشرفات لتنكسر جرات الزرع بالشارع وتلوثه وجاءوا بأعشاش الفراخ ليضعوها بديلًا للزرع!
لم تختلط جدتي بالجيران بالبداية وكانت قليلة الكلام، فقط تخرج إلى السوق بفستان بسيط وتسريحة شعر بسيطة ولكن كانت المفاجأة ظن الجيران أنها من الخواجات القلائل الذين قرروا تحدي كل شيء والبقاء بمصر.
تسمع جدتي السباب بأذنها مرارًا من الشرفات:
يا خواجاية يا و**ة
فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتضرب كفًا بكف وتفكر مليًا قبل أن ينال منها الغضب كيف تتصرف إزاء هذه الأفعال الصبيانية المقيتة؟..وجدت نفسها بالنهاية تتحدث مع الجميع وتشرح لهم أنها مصرية اسمها زينب تتحدث العربية بطلاقة وبنت هذه البلد حتى تتقي شر بعض الجيران الجدد.
تمر السنوات ويقف أحدهم لأبي يتشاجر معه ويصفه بأنه تربية يهود وتربت أمه بحارة اليهود قبل أن يسكنوا الإبراهيمية، وكأن الألفة والحب بين الناس باختلافات عقائدهم سبة!.. وأن يتربى المرء ببيئة صحية حيث لا خلاف يؤدي لنزاعات مؤرقة شيء يدعو للمعايرة.
أمتلك قصصًا مؤسفة كهذه تلخص أحوالنا اليوم وما وصلنا إليه، وربما العوامل التي قلبت حال مجتمعنا بهذا الشكل كثيرة وتطورت بمرور السنين حتى أصبحنا لا نشبه أبدًا مصر التي احتضنت الجميع دون تصنيفات وأسئلة مزعجة تجري وراء المُختلف وتدمر نفسية الآخر.
تربى أبي تربية الخواجات الذين رثوا كلبه وبكوا على حاله عندما وضع له حارس عقار مجاور السم بطعامه فمات وهو ينزف بدمه، أبي تربية الخواجات الذين علموه حب الفن والحياة وجعلوه يذكرنا كل وجبة غداء أن نترك ما نستطيع تركه لكلاب الشارع.
أبي “تربية خواجات” لذلك تعلم تقبل الجميع بصدر رحب مهما حاولوا إيذاءه يصدر لهم الابتسامة ويستقبلهم بحب وإن اختلف معهم في كل شيء ولا يرد الإساءة بإساءة كما كانت مصر بهذه الفترة لا تكثرها الشجارات والسباب وكإنه وجبة غذائية ثقيلة نتناولها رغمًا عنا كلما مررنا بالشارع.
أبي تعلم الصيد من الخواجة ميتسو ومن ثم منحه الصيد الحكمة والصبر وعدم الاندفاع ليزرع فينا أن للصبر وجهة من يقصدها يربح أطنانًا من المحبة، وأن طريق الله يعرفه صاحب القلب السليم ومن عرف الحب عرف الله وأخلص لمن حوله. لا أتمنى أن نسجن أنفسنا بالنوستالجيا ولكن لنحاول بكل ما أوتينا من حب أن نسترجع مصر برائحة حي الإبراهيمية قديمًا حيث لا مكان لكل قبيح ينتشر بيننا.
الكاتب
-
إسراء سيف
إسراء سيف كاتبة مصرية ساهمت بتغطية مهرجانات مسرحية عدة، وبالعديد من المقالات بالمواقع المحلية والدولية. ألفت كتابًا للأطفال بعنوان "قصص عربية للأطفال" وصدر لها مجموعة قصصية بعنوان "عقرب لم يكتمل" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد فوزها بمسابقة للنشر، كما رشحت الهيئة الكتاب لجائزة ساويرس.
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال