كتاتيب المسيحيين في مصر.. المسلمون كانوا يتعلمون بها
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
في تقرير سابق عن “كتاتيب اليهود“، أشرنا إلى أن كلمة “كُتَّاب” تثير في الذهن صورة خاصة بمؤسسات تعليمية أهلية دينية خاصة بالمسلمين، إلا أن الحقيقة الغائبة عن كثيرين أن هناك كتاتيب مماثلة لليهود، كما رأينا، بالإضافة لما سنتحدث عنه هنا.. كتاتيب المسيحيين.
اقرأ أيضًا
الكتاتيب اليهودية في مصر.. قصة مرحلة تعليمية منسية في عصر محمد علي باشا
وهذا يفتح مجالاً للتساؤل حول تعريف هذا المصطلح، إذ أن المعنى العام لـ”الكُتَّاب” لا يقتصر على دار لتعليم المسلمين فحسب، بل يمكن أن يشمل دارًا تعليمية شبيهة بالمكتبة، حيث يتولى شخص متعلم مهمة تعليم الأطفال القراءة والكتابة، بالإضافة إلى تزويدهم بالمبادئ الأولية للعلوم الدينية.
كتاتيب المسيحيين.. الشكل والمضمون والرعاية
تتعدد أوجه الشبه بين كتاتيب المسلمين وكتاتيب المسيحيين في مصر، من حيث النظام التعليمي والوظائف الثقافية، إلا أن الفارق الجوهرى يكمن في أن كتاتيب المسلمين لا تقتصر على المساجد فقط، بل تجدها منتشرة في كافة جوانب الحياة الاجتماعية، في حين أن كتاتيب المسيحيين كانت دومًا جزءًا أساسيًا من الكنائس والأديرة، حيث كانت تشكل معقلًا لتعليم النشء وتحصيل العلم في جو من الإيمان والتراث الديني.
اقرأ أيضًا
ليه المسيحيين بياكلوا بلح أحمر وجوافة في عيد النيروز؟
في كتابه “التعليم في القاهرة في القرن الثامن عشر”، تناول المؤرخ الراحل صلاح أحمد هريدي (1789 – 1914م) المواد العلمية التي كانت تُدرَّس في كتاتيب المسيحيين، حيث شملت مواد دينية وسلوكية في أجواء تعليمية تختلف عن سواها.
وتمحورت هذه المواد حول “الدين، وسلوكيات الخير، وفنون القراءة والكتابة باللغة القبطية”، إلى جانب تعلم الترانيم والآيات المقدسة من الكتاب المقدس، التي كانت تضاف كجزء من منهاج التعليم.
وفي إضافة هامة، أشار سليمان نسيب في كتابه “كتاب الأقباط والتعليم في مصر الحديثة“، الصادر عن أسقفية الدراسات العليا اللاهوتية، إلى أن المواد التي كانت تدرس في الكُتّاب المسيحي تضمّنت أيضاً “الحساب، وقياس الأراضي، والألحان الكنسية، إلى جانب مبادئ اللغة العربية والصلوات السبع”؛ وقد أطلق على المعلمين في هذه الكتاتيب اسم “العرفاء” أو “العرفان”، وهي تسمية تشير إلى مكانتهم الرفيعة ودورهم الهام في نقل العلم.
المسلمون لهم دور في كتاتيب المسيحيين
في تاريخ كتاتيب المسيحيين، تتجلى أول صورة من صور التفاوت الاجتماعي التي سادت تلك الحقبة، فبينما كانت الكتاتيب في عمومها مخصصة للفقراء، وتقتصر دروسها على أسس القراءة والكتابة وبعض المعارف الدينية، كان أبناء الطبقات الغنية يظفرون بتعليم أزهري رفيع المستوى على يد معلمين متخصصين في علوم اللغة العربية وآدابها من نحوٍ وصرفٍ وعروض، إلى جانب المنطق الذي يفتح أمامهم أبوابًا لآفاق عقلية أوسع وأكثر تنوعًا، وكان التعليم لدى هؤلاء يمثل حلمًا من أحلام الأجيال المتعاقبة، في مقابل أولئك الذين كانوا يسعون لتحقيق الحد الأدنى من المعرفة في كنف الكتاتيب.
وثاني الأمور التي ينبغي الإشارة إليها، فهي أن المسلمين في العصور السابقة لم يتوانوا عن الالتحاق بالكتاتيب المسيحية، كما أكد الكاتب ماجد عزت في كتابه “وادي النطرون في القرن التاسع عشر”، حيث ذكر أن بعض كتاتيب المسيحيين كانت تفتح أبوابها لأبناء المسلمين، رغبةً في تعليمهم الحساب، وذلك بهدف تمكينهم من التعيين في الوظائف المالية، وكان من أبرز تلك الكتاتيب “كُتَّاب كنيسة السيدة العذراء” في الطرانة بمحافظة المنوفية، التي أضحت معلمًا ثقافيًا يجسد روح التعاون بين أبناء الديانات المختلفة.
وثالث الظواهر اللافتة في كتاتيب المسيحيين، كان الحضور البارز للفتاة المسيحية منذ نعومة أظافرها، حيث كانت الفتيات المسيحيات في صعيد مصر يشاركن الذكور في الذهاب إلى كتاتيب القرى في طفولتهن، لتتابع دراستها بجد واجتهاد حتى سن البلوغ، ثم تنتقل إلى حياة جديدة في منزلها، حيث تبدأ رحلة الزواج وتتحول إلى ربة أسرة.
أماكن التمركز
في دراسة مُعمقة له، استعرض المؤرخ مصطفى محمود علي، المدن التي كانت محطات هامة في تاريخ التعليم التقليدي من خلال الكتاتيب، فذكر المحلة الكبرى في الغربية، والأزبكية في القاهرة، وحارة النصارى التي كانت تُمثل قلب الحياة الثقافية والتعليمية في القاهرة القديمة؛ كما أشار إلى مناطق أخرى مثل مصر القديمة وبولاق، ووادي النطرون في الصحراء الغربية، وكذلك أبانوب في أسيوط وطهطا في سوهاج، التي كانت تشكل مشاعل نورٍ للعلم في تلك الأزمنة.
اقرأ أيضًا
كيف تصدت مصر لوثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح؟ “مواجهة برعاية البابا وشيخ الأزهر”
مصادر التمويل
في العصور التي سبقت حكم محمد علي باشا، كان المعلم إبراهيم الجوهري رمزًا للثراء والتأثير عبر أوقافه العديدة. وقد أشار يعقوب نخلة روفيلة في كتابه “تاريخ الأمة القبطية” إلى أن أوقاف الجوهري كانت تمثل حجر الزاوية في تمويل ودعم الكنائس والأديرة، فضلاً عن الكتاتيب التي كانت تشكل نواة التعليم الديني في ذلك العصر، مما جعلها أداة فعالة في استدامة الحركة الدينية والتعليمية.
وكان المعلم جرجس الجوهري، الأخ الشقيق لإبراهيم، يحمل في قلبه حبًا عميقًا لرعاية الفقراء والمحتاجين، اشتهر بشرائه للأراضي ووقفها على الأماكن المقدسة، معاهدًا نفسه أن تكون هذه الأملاك مصدرًا للخير والبركة، ومن أبرز ما فعل، كانت تلك القطعة من الأرض في مدينة رشيد، حيث خصصها للفقراء من المسيحيين اليعاقبة الذين يقطنون دير المرقصية، ليمنحهم بذلك شرفًا من العناية والاحترام.
وفي سياق التطورات التي شهدها عهد محمد علي باشا، كانت كتاتيب المسيحيين تشهد دعمًا مستمرًا عبر الإعانات الخيرية، حيث كان عددٌ قليلٌ من هذه المؤسسات التعليمية يعتمد على الوقفيات الخاصة. من أبرز هذه الوقفيات كانت تلك التي خصصها المعلم بطرس عبدالمسيح، حيث منح ربع قيراط من الأرض لوقف يُخصص لتعليم أطفال حارة النصارى، واستمرت هذه الكتاتيب في أداء دورها التعليمي حتى جاء زمن الخديوي إسماعيل الذي شهد ظهور المدارس النظامية القبطية، والتي أحدثت نقلة نوعية في مستوى التعليم المسيحي. كما كان لليهود أيضاً كتاتيبهم الخاصة، لكن هذا الموضوع له تفاصيله الخاصة التي تتطلب سرداً منفصلاً عن تاريخ التعليم عندهم.
اقرأ أيضًا
الأزهر والفاتيكان.. قصة تعاون رفضه الأمريكان سنة 52 وتعزز بالوفاق بعد سنوات الشقاق
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال