فنان الشعب مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (11) موت سيد درويش لماذا لم يُحَل لُغْزَه ؟
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
انتهينا في اللقاء السابق من قصة فنان عند النتاج المسرحي له، وفي تلك الحلقة نتكلم عن موت سيد درويش بعد أن قلنا أنه يعتبر نتاجا غزيرا إذا ما قورن بالعمر القصير الذي عاشه، فضلا عن الأخذ في الاعتبار أنه بدأ بالفعل في التلحين المسرحي في نهايات العام 1917م تقريبا، وفي هذه الحلقة نتحدث عن الصفحة الأخيرة من حياة سيد درويش.
سؤال قبل أن تبدأ
ولكن قبل ذلك نتعرض لقصة قصيرة رواها الدكتور فيكتور سحاب في كتابة السبعة الكبار في الموسيقى العربية، مضمونها يدور حول ذات الفكرة التي تحدثنا عنها من أن نتاج التلحين المسرحي لسيد درويش يعتبر نتاجا غزيرا جدا إذا ما قورن بالعمر القصير الذي عاشه لدرجة تثير الفضول، كان سيد درويش كالآلة لا يتوقف عن الإنتاج، وكأنه يوحى إليه بالألحان، كأنما تتنزل عليه الألحان تترى، والحقيقة لم أطالع سيرة موسيقي كسيرة سيد درويش، صحيح الأمر يدعو للتساؤل والاستغراب، وهو ما ضمنه الدكتور فيكتور في كتابه، يقول:
رُب سائل يسأل: كيف سنح له من الوقت ما يكفي لوضع كل هذه الألحان؟ والحقيقة فإن من عاصروا الشيخ سيد درويش كانوا قد تساءلوا أيضا، بل وصل الأمر إلى أن شك العاملون معه في أن يضع هذا الفيض من الألحان في هذا الزمن القصير، لدرجة أن المسيو كاسيو الذي استعان به سيد درويش كما قلنا من قبل، أراد أن يختبر الشيخ سيد درويش وكان في ذلك الوقت قائدا لفرقته الموسيقية، فأبدل علامة موسيقية في إحدى أغنياته المسرحية، قاصدا اختبار علمه فيما وضع من ألحان في تلك الأيام القلائل، وفاجأه الشيخ سيد درويش وفاجأ الموسيقيين حين استوقفهم وأمرهم أن يؤدوا اللحن مثلما وضعه لهم.
اقرأ أيضًا
حلقات سلسلة سيد درويش | كاملة
يقول الموسيقي اللبناني المخضرم ميشال خياط الذي ولد في القاهرة وعاش فيها فترة طويلة: أن المسيو كاسيو ضرب رأس الشيخ سيد درويش بقوس الكمان قائلا له: نريد أن نعرف ما في هذا الدماغ.
خطط سيد درويش التي هدمها الموت
بعد أن تزعم الشيخ سيد درويش حركة الغناء المسرحي، واستتبت له الأمور على ما ذكرنا في الحلقات السابقة، قرر أن ينشيء فرقته الخاصة، ولكن سرعان ما حلها وعاد إلى الإسكندرية، وهم بالسفر إلى إيطاليا ليكمل تعلم فنون المسرح هناك، وكان قد بدأ بالفعل في تعليم طالبات المدارس نشيده الوطني الجديد “مصرنا وطننا سعدها أملنا” ليغنيه في استقبال الزعيم الراحل سعد زغلول العائد من المنفى، وجاء سعد زغلول وغنت الطالبات النشيد إلا أنهم غنوه بدون حضرة سيد درويش، فقد غفل الناس عن جنازة ذلك الشاب الذي وافته المنية في الخامس عشر من شهر سبتمبر من العام 1923م، والتي ضمت أربعة أشخاص فقط، مات سيد درويش بأزمة قلبية أو اغتيالا على ما سيأتي بيانه، وطويت صفحة ذلك الشاب الذي قلب موازين الموسيقى الشرقية رأسا على عقب بعبقريته وفطرته الموسيقية الفذة.
كذلك قبل وفاته بخمسة وأربعين يوما، كان الشيخ سيد درويش قد تعاقد مع الناشر إميل عريان على طبع ألحانه وأغانيه بالنوتة الموسيقية بعد أن يتم هرمنتها بالأسلوب العلمي، إلا أن القدر لم يمهله فمات بعد أن أبرم العقد بشهر ونصف تقريبا.
هل مات سيد درويش بفعل المخدرات أم بأزمة قلبية أم أن الأمر أبعد من ذلك
تضاربت الأقوال بشأن السبب الحقيقي وراء موت سيد درويش والحقيقة أن القول بأنه مات نتيجة تعاطيه جرعة زائدة من المخدر هو قول عار تماما عن الصحة كما ذكرنا في الحلقة السابقة، بدليل الخطاب الذي أرسلة الشيخ سيد درويش قبل وفاته بأكثر من عام إلى صديقه حسن القصبجي، والذي أخبره فيه أنه توقف تماما عن تعاطي المخدرات بسبب حادثة عاينها في الخازندار، لذلك يتبقى لنا احتمالين، الأول أنه مات بسكتة قلبية، والثاني أنه مات اغتيالا، وفي هذا الصدد يقول محمد البحر ابن الشيخ سيد درويش: أنه مات مسموما، وشرحت جثته في المستشفى اليوناني في الاسكندرية، وقدمت عائلته شكوى إلى الشرطة ضد باشوات من المدينة، كان يقضي سهرته تلك عندهم، لكن التحقيق أُقفل بأمر من سلطات عليا، ويميل الكثيرون إلى تصديق تلك الرواية، وإلى تصنيف موت الشيخ سيد درويش على أنه اغتيالا سياسيا، لأن صديقه بيرم التونسي نفي في ذلك الوقت تقريبا، بعدما اختبأ عنده من الحكومة لمدة سنتين سرا، وعتب بيرم لأن الشيخ سيد درويش لم يودعه، ولكنه قرأ نعيه في الصحف، لذا يرجح أن نفي بيرم التونسي الثاني كان زمن موت سيد درويش وهو ما أثار التساؤل حول ما إذا كان الحدثان فعل يد واحدة.
هل حظي الشيخ سيد درويش بالتكريم الذي يليق به من قبل الدولة
في الحقيقة لم يحظ فنان بما حظي به فنان الشعب سيد درويش من تكريم بعد وفاته، ومن مظاهر هذا التكريم أن أطلق اسم الشيخ سيد درويش على قاعة بأكاديمية الفنون بالقاهرة، كذلك أطلق اسمه على مسرح سيد درويش بالاسكندرية وعلى أحد الشوارع بحي كوم الدكة الذي نشا فيه، كذلك أقيم له تمثال بمعهد الموسيقى العربية وحديقة الخالدين بالاسكندرية وأوبرا القاهرة وأكاديمية الفنون، كما صدر في مئوية سيد درويش طابع بريد يحمل اسمه وصورته، كذلك يعتبر من أهم مظاهر تكريم خالد الذكر أن جعل نشيد “بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي” هو النشيد الوطني لجمهورية مصر العربية، فضلا عن شهادات التقدير التي كرمته بعد وفاته في المهرجانات والمحافل الموسيقية الكبرى.
علاوة على الألقاب التي اختص بها سيد درويش وهي: فنان الشعب، وخالد الذكر، والشيخ سيد، وخادم الموسيقى وهو لقب كان يطلقه هو على نفسه ولا يوقع دونه كما ذكرنا من قبل.
وبذلك أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية قصة فنان الشعب سيد درويش، الذي سنظل نستمع ونسعد بألحانه ما بقينا في هذه الحياة، نتعلم ونستمتع، نفخر وننبهر بكل ما قدمه لخدمة الموسيقى، على أن ألقاكم في قصة جديدة من قصص أحد أعلام موسيقانا العربية.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال