سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (9) رحلة إلى قوالب فنان الشعب الغنائية
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
توقفنا في الحلقة الماضية من سلسلة سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة عند تأثير فن سيد درويش على المجتمع المصري وكيف لعب دورًا مهمًا في تاريخ الوطنية المصرية والتصاق فنه مع هموم الشارع المصري.
لقراءة حلقات سلسلة
سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة
هذه الحلقة من سلسلة سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة سنخصصها للحديث حول أعمال فنان الشعب سيد درويش في ميادين القوالب الغنائية المختلفة، مع ذكر أمثلة على كل قالب، ويمكنك عزيزي القاريء الرجوع إلى الأرشيف المتوفر على شبكة الإنترنت للاستماع إلى المتوفر والذي وصلنا من هذه الأعمال.
سيد درويش والقوالب الغنائية المختلفة
بتتبع نتاج فنان الشعب سيد درويش الذي لا يقارن بالعمر القصير الذي عاشه، نجد أن هناك تنوع كبير في القوالب الغنائية التي لحنها، فقد بدأ سيد درويش مشواره الفني بتلحين السلامات، كذلك لحن الأدوار التي مثلت تعبيرا صادقا عن مواقف درامية عاشها في حياته الخاصة، كذلك لحن الطقاطيق والقصائد والأناشيد الوطنية والمونولوجات واليالوجات، كذلك غني سيد درويش الموال، وإن كان قد قصر أدائه على الجلسات والسهرات الخاصة، فضلا عن ألحانه المسرحية الكثيرة والتي سنفرد لها حلقة مستقلة فيما بعد، وفيما يلي بيانا لذلك:ـ
اقرأ أيضًا
سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (1) أجواء اكتشاف الموهبة
بالنسبة للسلامات، فيهمني عزيزي القاريء أن نتعرف على ملامح هذا القالب قبل أن نتحدث عن نتاج الشيخ سيد درويش في ميدانه، والسلام بشكل عام هو أداء غنائي جماعي يؤديه جماعة المشتركين في العرض المسرحي قبل رفع الستار وقبل نهاية العرض، وهذا اللون يشبه إلى حد كبير تلك الأناشيد المدرسية التي كنا نغنيها وقت أن كنا تلاميذ، أما كلمات هذا القالب فكانت لا تخلو من الجمع بين الترحيب بجمهور المشاهدين والدعاء للخديوي والسلطان، أما إيقاعها فيكون غالبا من الإيقاعات العربية مع التنويع أحيانا بأكثر من إيقاع في السلام الواحد، وعلى أيه حال فقد لحن سيد درويش من هذه السلامات لفرقة أمين وسليم عطا الله الكثير، ونذكر منها، سلام “غردت ورق توارت بين ندمان الطرب” على مقام العجم، إيقاع سماعي ثقيل، وسلام “نهيم دواما لتغريد الهزار” على مقام بوسلك، إيقاع فالس، وسلام “الصفا فاقت حدوده بالتهاني والسداد” على مقام عراق، إيقاع أوفر+سماعي دارج، وسلام “يا هزار قم وغني فوق غصن الياسمين” على مقام الحجاز كار، إيقاع نواخت+سماعي دارج، وفي كل سلام لحنه سيد أضفى على اللحن لمساته الخاصة التي عبرت عن فنه في وقت كان فن سيد لا يزال ناشئا، أو بالأحرى لم يكن قد وصل سيد لما وصل إليه من شهرة عمت البلاد.
أما بالنسبة لقالب القصيدة، فهي أقدم أنواع الغناء العربي على الإطلاق، وتتكون من مجموعة من الأبيات ذات القافية الواحدة والبحر الشعري الواحد، وميزانها في العادة رباعي بسيط، وقد توسع الملحنون في استخدام الآلات الموسيقية في آدائها، وباتت يستخدم فيها الإيقاعات الموسيقية المختلفة، كما استعان بعض ملحنوها بأفراد الكورس لترديد بعض أبياتها، وفي الحقيقة فإن القصيدة على مر العصور قد تناولت شتى مناحي الحياة، فما من ميدان من ميادين العواطف والشعور والمواقف والعلاقات إلا وتناولته القصيدة وعبرت عنه، عبرت عن الحب والكراهية والمدح والذم والهجاء والرثاء وغير ذلك، فضلا عن كونها أحد أسباب نهضة المسرح الغنائي في زمن الشيخ سلامة حجازي ومن بعده زمن فنان الشعب سيد درويش، وبتتبع نتاج سيد درويش في ميدان القصيدة، نجد أن ما لحنه منها قد أتى في روايات الهواري وعبد الرحمن الناصر والدرة اليتيمة، ومن القصائد التي لحنها فنان الشعب سيد درويش، قصيدة مطلعها “أيها القلب تمهل واتئد”، وقصيدة “حن الزمان وجاد لي” وقصيدة “سلى خيالك عن قلبي وما وجدا” وقصيدة “قد خيب الدهر يوم الوصال آمالي”، وكل القصائد السابقة كانت من تأليف إبراهيم رمزي، كذلك لحن الشيخ سيد درويش من كلمات مصطفى ممتاز قصائد كثيرة منها ما لحنه سنه 1921م، كقصيدة “هات يا ساقي الحميا” وقصيدة “هل سمعتم أو رأيتم جنونا”، وقصيدة “يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل”، وقصيدة “قيل لي قد تبدلا” وغيرها من القصائد التي برع في تلحينها فنان الشعب سيد درويش والتي هي في الغالب في ميدان التلحين المسرحي.
اقرأ أيضًا
الشيخ سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (2) قصة الحفل الأول لفنان الشعب
أما بالنسبة للموشح، وهو من أهم القوالب الغنائية، فيهمني كذلك عزيزي القاريء قبل بيان نتاج سيد درويش في ميدانه أن نتعرف على ملامحه وتاريخ نشأته وصفاته، فالموشح هو قالب من قوالب الغناء العربي، يرجع عهده إلى أكثر من ألف عام، بعد أن فتح العرب الأندلس لأول مرة سنة 93هجرية/711ميلادية، واستتب الأمر لهم، وفي البداية كان الموشح ينظم بالشعر ثم بدأ يدخله بعض الألفاظ العامية، كما أنه لا يرتبط بميزان شعري معين مما يكسبه نوعا من التلوين والتنوع، أما بالنسبة لإيقاعه، فالموشح يصاغ على إيقاع موسيقي خاص يختلف عن إيقاع القصيدة.
اقرأ أيضًا
الشيخ سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (3): الحظ يبتسم لفنان الشعب
وبالتأريخ، فأقدم من نظم الموشح في الأندلس كان مقدم بن معافى القبري، وكان ذلك في أواخر القرن الثالث الهجري، ثم أتى من بعده أحمد بن عبد ربه القرطبي صاحب (العقد الفريد) ثم عبادة بن القزاز، أما أول من نظم الموشح من المصريين فكان ابن سناء الملك ومن موشحاته: “كللي يا سحب تيجان الربى بالحلي واجعلي سوارها منعطف الجدول”، مع ملاحظة أنه يمكن أن تضاف إلى الموشح بعض الألفاظ التركية أو الفارسية مثل برمن أو أمان أو دوس وهكذا، وكلها ألفاظ أو كلمات الهدف من إضافتها ضبط الموشح إذا ما كانت تفاعيل الجملة الشعرية أقل من أزمنة طقم الإيقاع، وبالحديث عن نتاج سيد درويش في هذا الميدان، فلسيد درويش حوالي أربعين موشح من مختلف المقامات والإيقاعات، وقد ابتكر فنان الشعب سيد درويش بعض الإيقاعات ليتفرد بمذاق مختلف كإيقاع فكرتي 15/8، الذي لحن عليه موشح “يا صاحب السحر الحلال” (مقام حجاز كار).
اقرأ أيضًا
فنان الشعب سيد درويش (4) المغني في بلاط السياسة والساسة “عباس قبل سعد”
تنوعت الموشحات التي لحنها سيد درويش من حيث المقامات والإيقاعات بل من حيث المواضيع التي ناقشتها تلك الموشحات، فمنها ما كان للعتاب ومنها ما كان عن الفراق والهجر، ومنها حتى ما كان من الموشحات الدينية ونذكر من أهم الموشحات التي لحنها الشيخ سيد درويش:
موشح “أهوى قمرا سهامه عيناه” على مقام الصبا، إيقاع سماعي ثقيل10/8، وموشح “إجمعوا بالقرب شملي” مقام بياتي، إيقاع نواخت 7/4، وموشح ديني بعنوان إن ميلاد الرسول المصطفى على مقام العجم عشيران، وموشح “حبي دعاني للوصال” على مقام شوري، إيقاع عويص 11/4 وقد غناه المطرب الكبير صالح أفندي عبد الحي، وموشح “صحت وجدا يا ندامى” مقام راست سازكار، إيقاع دور هندي 7/8 ،وموشح “طف يا درى بالقناني” على مقام الحجاز كار كرد، إيقاع ظرافات 13/8، وغيرها من الموشحات التي أثبت من خلالها سيد درويش قدرته على الإبداع في تلحين هذا القالب صعب التلحين والضبط.
اقرأ أيضًا
سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (5) رفض الأهل وسلامة حجازي يظهر
أما بالنسبة لقالب الدور، فهو قالب غنائي مصري ظهر في أوائل القرن التاسع عشر، ويتألف من قسمين هما الدور والمذهب، وقد مر الدور بتطورات عديدة أهمها ما أحدثه المرحوم محمد عثمان برفقة صديقه المرحوم عبده الحامولي، وذلك بما أدخله على الدور من آهات وحوارات غنائية بين الصييت والمذهبجية فيما عرف بالهانك والرانك، وقد كان الشيخ سيد درويش يستهل كل أدواره بسلطنة المقام المصاغ من الدور، فكان يمر على كل درجاته الصوتية في الجملة الأولى من المذهب، ونتاج سيد درويش في هذا الميدان هو إحدى عشر دورا، سجل منها تسعة أدوار بصوته، بينما سجل الدورين الآخرين المرحوم الشيخ سيد الصفتي والمرحوم محمد أنور، جدير بالذكر أن لسيد درويش دوران آخران لم يلحن منهما سوى المذهب فقط.
الأدوار التي لحنها الشيخ سيد درويش
دور “يا فؤادي ليه بتعشق”، ودور “عشقت حسنك”، ودور “في شرع مين”، ودور “ياللي قوامك يعجبني”، ودور “الحبيب للهجر مايل”، ودور “أنا عشقت”، ودور “أنا هويت وانتهيت”، ودور “يوم تركت الحب”.
أما بالنسبة لقالب الطقطوقة، فهو أبسط القوالب الغنائية، ويتكون هذا القالب من مذهب وأغصان، كانت في البداية تلحن على لحن واحد من مقام واحد قبل أن تتطور التطور الذي تحدثنا عنه في مسيرة الشيخ زكريا أحمد، على أية حال فقد تناولت الطقطوقة مجالات التوعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولسيد درويش من ألحان الطقاطيق مايقرب من 130 طقطوقة، ولكن فقد منها الكثير.
الطقاطيق التي لحنها سيد درويش
طقطوقة “أهو دا اللي صار” مقام حجاز كار كرد، وطقطوقة “عرفت آخرتها ويا حبي” مقام عشاق، وطقطوقة “يابو الكشاكش” التي غنتها مطربة القطرين فتحية أحمد، وطقطوقة “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية” وطقطوقة “يهون الله يعوض الله” وغيرها.
أما قالب المونولوج، فهو قالب غنائي فردي يحكي قصة ذات بداية ونهاية، ومضمون يكتب بالعامية أو الفصحى، يبدأ بقطعة موسيقية في الغالب تعبر ضمنا عن الحالة التي يقصدها المؤلف، وأول ظهوره كان من خلال المسرح الغنائي في الألحان الفردية التي يؤديها مطرب ومطربة الفرقة، وانتقل من بعدها إلى التخت ثم إلى السينما آخذا شكلا أكثر تطورا فيما عرف بعد ذلك بالأغنية، أو بالأحرى كغيرة من القوالب التي اندرجت تحت هذا الاسم، وفي هذا الميدان، لحن سيد درويش 23 مونولوجا نذكر منها، مونولوج “الناس وقعتها خفيفة”، ومونولوج “أنا رأيت روحي في بستان” ومونولوج الكوكايين (اشمعنى يا نخ الكوكايين كخ)، ومونولوج “أنس وجمال وخلو بال”، ومونولوج “والله تستاهل يا قلبي” وغيرها.
أما قالب الديالوج، فيتكون من لفظين “ديا” أي اثنين و”لوج” بمعنى أداء ويشترك في آدائه مطرب ومطربة، وقد لحن سيد درويش 18 ديالوجا منها، “على قد اللي ما يطول”، “مين زيي مين أسعد مني” ، “أديني اهو جيتك بدري”، “لما أشوف وش الحبيب”، “الله على شكلك وحلاوتك”، وغيرها.
اقرأ أيضًا
فنان الشعب مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (6) سيد درويش وثورة 1919
أما بخصوص الأناشيد والألحان الوطنية، فالنشيد هو قطعة منظومة من الشعر أو الزجل، ذات طابع حماسي أو قومي، تتغنى بأمجاد الوطن أو ذات طابع عسكري يحث على الشجاعة والإقدام في ميدان الحرب، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه قبل سيد درويش لم يكن هناك نشيد قومي متداول بين أفراد االشعب، كذلك قد بلغ سيد درويش ذروة التلحين في هذا القالب، وقد لحن سيد درويش 22 نشيدا نذكر منها، نشيد “دقوا الطبول” ونشيد “بلادي بلاي” ونشيد “قوم يا مصري” ونشيد “الجيش رجع مـ الحرب” ونشيد “هيا أيها الأبطال هيا”وغيرها.
اقرأ أيضًا
فنان الشعب سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (7) الجانب الشخصي
أخيرا قالب الموال، فهو قالب يعتمد على الارتجال الفوري معبرا عن أحاسيس معينة في حالة أشبه بالحوار بين المؤدي والآلة الموسيقية، كذلك فالموال ينظم بالزجل من بحر البسيط ويعتمد في هذا النظم على المحسنات البديعية المعروفة كالجناس والطباق وهكذا، وهو على أنواع كثيرة، سنتحدث عنها بالتفصيل في سلسلة مقالات القوالب الغنائية فيما بعد، على أية حال فالشيخ سيد درويش كان يتغنى بالموال في سهراته وجلساته الخاصة وللأسف لم يصل لنا من هذه المواويل سوى أربعة: موال طباباك يا جرح ماتوا وأنت لسه حي وموال لك خال عالخد يعجبني أنا وغيري، وموال منين أجيب صبر يغنيني على بعدك، وموال يا عيني ليه تنظري لأهل الجمال تاني.
وهكذا أعزائي القراء نكون قد تحدثنا بشكل مختصر عن أعمال فنان الشعب سيد درويش في ميادين القوالب الغنائية المختلفة، بيد أن هناك نقطة في غاية الأهمية سنفرد لها الحديث في الحلقة القادمة، ألا وهي أسلوب سيد درويش في التلحين، هل كان سيد درويش تقليديا جامدا أم كان يسعى إلى التطوير والتعديل؟
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال