موسيقار الأجيال (12) المونولوج بين محمد أفندي عبد الوهاب والقصبجي
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الثانية عشر من قصة موسيقار الأجيال النابغة محمد أفندي عبد الوهاب وكنا قد توقفنا في اللقاء السابق عند نتاجه خلال السبع سنوات التي رافق فيها أمير الشعراء شوقي بك في ميدان قالب المونولوج، وفي هذه الحلقة نختتم تلك المرحلة المهمة والفارقة في حياة محمد أفندي عبد الوهاب بالحديث عن مونولوجاته خلال تلك المرحلة.
اقرأ أيضًا
حلقات سلسلة موسيقار الأجيال محمد أفندي عبد الوهاب
في البداية يتعين علينا أن نشير إلى ما فعله المرحوم الأستاذ محمد القصبجي في ميدان هذا القالب في إشارة سريعة لتصل وجهة النظر المتعلقة بالاستاذ محمد عبد الوهاب على أن نفصل القول في سلسلة حلقات الأستاذ محمد القصبجي في القريب العاجل.
المرحوم محمد القصبجي وقالب المونولوج
من المعروف أن الأستاذ محمد القصبجي قد أحدث ثورة في ميدان قالب المونولوج بداية من عام 1925م وحتى عام 1941م، كان القصبجي قد اقتحم غمار صياغة المونولوج في عام 1925م مع الآنسة أم كلثوم إبراهيم في وقت لم يكن قد اكتمل بالفعل تحديد المعايير المنضبطة لصياغة هذا القالب، ومع مرور الوقت أثبت جدارة في تطوير هذا القالب بدءا من إن كنت أسامح وانسى الأسية،، وهو مونولوج على مقام الماهور سجلته أم كلثوم في عام 1928م، مرورا بمونولوج يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان، الذي غنته أم كلثوم في عام 1937م، وهو مونولوج مطول تم نسج لحنه من مقام الراست وهو من وجهة نظري من أعظم مونولوجات القرن العشرين وحتى ذروة ما يعرف في الغناء الشرقي بالمونولوج مكتمل الأركان رق الحبيب الذي غنته السيدة أم كلثوم لأول مرة في عام 1941م.
بدأ القصبجي مشواره مع قالب المونولوج بمونولوج خيالك في المنام، ثم زارني طيفك، وأخدت صوتك من روحي، وقلبك غدر بي، ويا ريتني كنت النسيم، وخلي الدموع دي لعيني، إلى أن وصل في عام 1928م لمونولوج الماهور إن كنت اسامح وانسى الأسية، فقلب موازين صياغة هذا القالب بتطورات عديدة أهمها تطوير الموسيقى المصاحبة للغناء وكذلك المقدمة الموسيقية واللزمات، بل تعدى التطوير إلى المطرب ذاته فنقلة من منطقة التطريب إلى منطقة التعبير لخدمة قص المونولوج على أذن المستمع، واستمر القصبجي في تطويره لهذا القالب حتى بلغ ذروة اكتماله في مونولوج رق الحبيب.
كان ذلك دور محمد القصبجي باختصار في تطوير قالب المونولوج وقد كان لزاما علينا أن نتعرض له قبل الحديث عن محمد عبد الوهاب ونتاجه في ميدان هذا القالب.
محمد عبد الوهاب وقالب المونولوج خلال فترة السبع سنوات
اعترف محمد أفندي عبد الوهاب لأستاذه محمد القصبجي بالفضل في كونه صاحب السبق في صياغة هذا القالب البديع “على النحو المشار إليه من حيث التطوير” الذي يعتمد على التعبير ويرتبط أكثر بالوجدان، خصوصا بعد ما بيعت من مونولوج إن كنت اسامح وانسى الأسية أكثر من ربع مليون اسطوانة، وبدأ يتعلم منه ويستفيد من خبرته في منح قالب المونولوج هذا الشكل، وعلى الرغم من أن محمد أفندي عبد الوهاب قد صاغ لنفسه ما يقرب من سبعة مونولوجات قبل أن تحصل الضجة المصاحبة لمونولوج إن كنت اسامح وانسى الأسية إلا أنه ظل معترفا له بهذا الفضل.
هل هناك رابط بين وفرة نتاج محمد أفندي عبد الوهاب في ميدان قالب المونولوج وبين شخصيتة الفنية ؟
هذا التساؤل كنت قد طرحته على نفسي منذ وقت طويل، ووجدتني أميل إلى حتمية وجود رابط بين وفرة نتاج محمد عبد الوهاب في حقل المونولوج وبين شخصيته الفنية، والمتتبع لميراث الأستاذ النابغة محمد عبد الوهاب من بداياته باسطوانتي المحاكاة التي سبق الحديث عنهما” ويلاه ما حيلتي ويلاه ما عملي ضاع الرشاد وضاقت في الهوى سبلي” و “أتيت فألفيتها ساهرة”، مرورا ببداياته مع الطقاطيق والأدوار وكذلك القصائد، وبالنظر إلى قصة حياته المليئة بالشغف تجاه هذا الفن، سيجد حتما أن هذا الفنان إنما كان يبحث عن ذاته في دنيا الغناء والطرب، وأن ميله إلى التعبير والغناء المرتبط بالوجدان والمشاعر لا التطريب هو الأقرب لشخصيته، واستمع لأسلوبه في غناء القصائد مثلا كقصيدة يا جارة الوادي أو قصيدة مقادير من جفنيك حولن حاليا، ففي قالب لا يرتبط أو على وجه الدقه لا يعتمد على فكرة السرد أو مخاطبة النفس تجده هائما يعبر عن شخصيته، شخصية محمد عبد الوهاب الفنان المرهف، حتى أنه قال ذات مرة عن مونولوج في الليل لما خلي: لقد وجدت فيه نفسي، لقد وجدت محمد عبد الوهاب الذي أبحث عنه.
وبما أننا نتحدث عن قالب المونولوج، ذلك القالب المعتمد على السرد والمفعم بالأحاسيس والمشاعر المرتبطة بالوجدان والمعتمد في المقام الأول على إيصال المعاني وقص الرواية فإننا سنصل حتما إلى أن ما أنتجه محمد عبد الوهاب في ميدان هذا القالب والذي ذكرناه في الحلقة السابقة إنما كان كذلك “أي غزيرا” لأنه يعبر عن شخصية محمد عبد الوهاب الحقيقية، وأنه بلا شك هناك رابط حتمي بين عزارة إنتاجه في قالب المونولوج وبين شخصيته التي تميل الي التعبير أكثر من ميلها إلى التطريب.
حول هذا المعنى المهم يقول الدكتور فيكتور سحاب
هذه الوفرة في نتاج محمد أفندي عبد الوهاب في ميدان قالب المونولوج إنما تنبيء عن ميل محمد عبد الوهاب إلى التعبير في الغناء، ذلك أن شكل المونولوج هو شكل طابعه الأول “السرد” الموسيقي، أي أنه يخلو من الأنغام المرددة أو المكررة، فليس فيه أغصان أو مقاطع أو مذاهب، فتبدأ الأغنية بلحن يتطور ويساير قصيدة زجلية غالبا من صورة إلى صورة ومن بيت إلى بيت، ولذلك فالقصيدة الزجلية المثلى للمونولوج هي تلك التي تروي أو تصف؛ لأنها تسهل للملحن أن يضع لحنا سرديا للكلام السردي، وقد اتخذت المونولوجات في تراث محمد عبد الوهاب في هذه المرحلة” أي مرحلة السبع سنوات” مكانة رفيعة، فإلى جانب التطوير الموسيقي التأليفي كإدخال تعدد الأصوات والألحان في مقطع “تيجي تصيده يصيدك” من مونولوج اللي يحب الجمال و”حبيت وقاسيت” من مونولوج كتير يا قلبي وإلى جانب ملامح التطوير الغنائي البارزة مطلع أغنية أهون عليك الأوبرالي ومقطع “ثم ابك عني واشك الزمان” الغنائي المعجز في مونولوج على غصون البان، حفلت هذه المونولوجات بما لا يعد ولا يحصى من العناصر التعبيرية في الغناء والموسيقى معا.
ولعل أعظم الأمثلة على ذلك هو مونولوج في الليل لما خلي، فهو أخطر مونولوجات محمد أفندي عبد الوهاب من حيث العمق الوجداني والقوة التعبيرية والتصوير المبدع حين يقول “يخلو الليل”، “ويسرح في الرياض” ، “ويسمع أنين مناديه”، وكأن النغمة التي تسيّر اللحن قد حلت محل الريشة في وضع الصورة المؤثرة التي يجسدها المونولوج، لذلك قلنا أن عبد الوهاب قد قال عن هذا المونولوج” لقد وجدت فيه نفسي، وجدت فيه محمد عبد الوهاب الذي أبحث عنه.
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى نهاية مرحلة السبع سنوات التي قضاها النابغة محمد أفندي عبد الوهاب برفقة أمير الشعراء أحمد شوقي بك، لنبدأ من الحلقة القادمة في مرحلة جديدة من مراحل حياة الموسيقار محمد عبد الوهاب ألا وهي مرحلة السينما.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال