همتك نعدل الكفة
987   مشاهدة  

انطفأت أنوار المسرح..الأيام الأخيرة في حياة توفيق الحكيم

توفيق الحكيم


داهمته الوحدة وبدأت أمراض الشيخوخة تزحف على روح الأديب توفيق الحكيم في أيامه الأخيرة.

قضى توفيق الحكيم الثلاثة سنوات من حياته في متاعب صحية، سواء بسبب أمراض الشيخوخة أو أمراض الوحدة والأحزان التي توالدت عن رحيل ابنه إسماعيل.

وكتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز عن الرسائل الخاصة في حياة توفيق الحكيم، ومنها:”عندما اشتد الألم على إسماعيل، نادى والده “آه يا بابا”، وكانت كلمة بابا أجمل كلمة يسمعها توفيق الحكيم في حياته، ولم يشعر طعم ومذاق هذه الكلمة إلا في هذه الساعة، ولكن بعد فوات الأوان، ففي الوقت الذي كان فيه الحكيم يجلس في صالون البيت يتحدث إلى الطبيب بشأن علاج إسماعيل في الخارج، جاءه صوت “ناجا” أخت إسماعيل وصوت زوجة إسماعيل الثانية “هيدي” وهما يصرخان: إسماعيل مات”.

توفيق الحكيم

لم يشعر الأديب الراحل بنفسه إلا وهو يقوم من مكانه ويقع على الأرض، ويقوم ويقع خلال حركته من حجرة الصالون إلى شرفة البيت وهو يلطم خده، ثم ما هي إلا ساعة حتى جلس صامتا يحمل على قلبه الحزن المهيب.

كلما اقترب شهر أكتوبر خاصة ينتاب “الحكيم” حالة من الحزن وتبدأ نفسيته في التعب والشعور بالذنب اعتقادا منه أن إهماله لابنه منذ طفولته وحرمانه من حنانه كان سببا في موته، بل كان سببا في قتله.

وتحاول ابنته “زينب” أن تخفف عنه بأنه لا يزال باقيا على شهر أكتوبر عدة شهور، برغم أنها هى الأخرى تتشائم من ذلك الشهر لأن فيه مات زوجها، وحتى “الحكيم” في المستشفى أثناء مرضه الأخير يتذكر شهر أكتوبر فتطمئنه ابنته بأن هذا الشهر لا يزال بعيدا فلا يخاف ولا يجزع.

إسماعيل توفيق الحكيم

قبل رحيل ابنه إسماعيل عاش نفس الحزن، رحلت زوجته التي قيل إنها أصيبت بشلل أقعدها عن الحركة حتى توفيت، وقد أصاب الحزن الشديد توفيق الحكيم على فراق هذه الزوجة المخلصة.

ويوم أن مات الحكيم ف عام 1987 كان قد بلغ من العمر ثمانين عاما.وبدأت الأمراض تهاجمه بقوة وقسوة عام 1981، عندما قرر اعتزال الكتابة، إلا أن الأمراض الشديدة لم تبدأ بشكل مباشر في وضع النهاية المحتومة إلا منذ عام 1984 عندما نقل إلى مستشفى المقاولون العرب مصابا بغيبوبة.

ففي 21 أبريل من عام 1984، طلبت الإسعاف الخاصة بالعاملين في جريدة الأهرام لنقله من بيته المطل على النيل إلى مستشفى المقاولون العرب، إثر إصابته بهبوط في القلب والتهاب رئوي حاد، وقد تم إدخاله غرفة العناية المركزة ومنع الأطباء زيارته لحرج الحالة التي يجتازها.

توفيق الحكيم

وفي التقرير الطبي الذي أصدرته المستشفى وقتها قال الدكتور عبد المنعم حسب الله أستاذ الأمراض الباطنة بطب القصر العيني إنه بعد إجراء الأبحاث والفحوصات وأهمها رسومات القلب وأشعة الصدر، اتضح أن توفيق الحكيم كان مصابا بقصور في الدورة التاجية للقلب.

وكان من أسبابه تصلب الشرايين الناتج عن عامل السن، وكذلك إصابته بنزلة برد شديدة، وقد أدت هذه ومع تقدم عمر الحكيم إلى إصابته بالتهاب رئوي، حيث أصيب فص كامل من الرئة اليمنى، مما أدى إلى انكماش الرئة، مما زاد من صعوبة التنفس، حيث أصيبت الرئة المصابة بالتهاب لا تعمل بكفاءة عالية.

بالإضافة إلى ضغط السائل البلوري على القلب، مما دفعه إلى الجانب الآخر من الصدر، ونظرا لوجود قصور بالدورة التاجية في الأصل أدت جميع هذه العوامل إلى حدوث هبوط بالقلب مما أدى إلى حالة الصعوبة الشديدة في التنفس.

وحكى صلاح منتصر عن الأيام الأخيرة في حياة توفيق الحكيم، أنه بدأ في آخر شهر يوليو عام 1984، في بداية شهر رمضان، انقطعت أخبار الحكيم بعد خوله المستشفى، وأصبح الإعلان عن خبر وفاته متوقعا.

توفيق الحكيم

دخل صلاح منتصر في 5 يوليو بعد الإفطار لجناح توفيق الحكيم، لم يجد في الصالون الملحق بالغرفة التي فيها السرير الذي ينام عليه، لا زائر ولا ممرضة ولا صوت أحد.

سحب “منتصر” كرسيا وجلس أمام سرير توفيق الحكيم، وكان عبارة عن كومة هشة من اللحم، واختفى جسمه تحت الأغطية ولم يظهر منه سوى وجهه والطاقية التي كان يغطي بها رأسه، وكان الوجه بتجاعيده الغائرة يعطي إحساس إنسان وضع قدميه على حافة القبر وجلس في الانتظار.

أنا مسرح بدون جمهور 

سأل “منتصر” توفيق الحكيم، عن “الموت”، فرد :”لم يعد لي سوى الله، وفي دعواتي السابقة إليه لم يحدث أن دعوته بشدة طالبا منه أن يأخذني إلى جواه مثل هذه المرة، لأن مهمتي في الحياة انتهت، تصور أي مسرح في آخر الليل، بعد أن يغادر الجمهور وينصرف ممثلوه وعماله، مسرح خال بدون جمهور، ما الذي يبقى له سوى أن يمد عامل يده ويطفئ ما بقى فيه من أنوار، أنا هذا المسرح، وهذا الوقت بالذات هو الوقت المناسب الذي يجب أن ينطفئ فيه نوره”.

وفي حديث توفيق الحكيم، أخبر صلاح منتصر أن الأطباء أخبروه أنهم هيأوا أنفسهم لموته، ولكن المعجزة الإلهية شاءت أن يعيش.

بعدما مر توفيق الحكيم من فترة المرض كان الأطباء يهنئونه على شفاءه، فيرد: ما الفائدة من حياتي؟ فيجيبوه: عشان تمتعنا، فيسأل: ليه هو أنا مطرب؟ فيقول الأطباء: “عشان تكتب لنا”، فيرد: ” أكتب، هو أنا لسه حاكتب؟ أنا أريد شيئا له قيمة مهمة غير الكتابة لأنه ما فائدة الكتابة؟ الناس لو بتقرأ كان يبقى فيه أمل، لكن الناس النهاردة للأسف لا تريد القراءة، إذا قرأت فهي تقرأ الصحافة والمقال الطازج، وما عندي الآن ليس سوى الذكريات القديمة، وحياة قديمة، والناس عاوزه الطازه، لكن أنا بقيت روبابيكيا”.

توفيق الحكيم

في الأيام الأخيرة لتوفيق الحكيم، انقطعت عنه الزيارات، لا أصدقاء، أو زوار، أو تليفونات تسأل عنه وتعطيه أهميته، كان أدق ما ينطبق عليه ما قاله في أحد مقالاته:” إن الفنان أو الأديب لا يهدمه الذم والنقد، بل إنهما يدعمان وجوده، إنما الذي يهدمه ويقتله هو الإهمال”.

بعدما نشر صلاح منتصر حواراته مع توفيق الحكيم، تتابعت زيارته له، وزاره أصدقاء ووزراء، منهم محمد عبد الحميد رضوان.

ظل الحكيم على حالته، بين الصحة والمرض، إلى شهر أبريل عام 1987، عام رحيله، عندما أعلنت الصحف نقله إلى القصر العيني بعد أصابته بغيبوبة.

رقد الحكيم في عنبر رقم “1” في القصر العيني، وتروي زينب الحكيم عن تلك الفترة حسب كتاب”الأيام الأخيرة لهؤلاء” لحنفي المحلاوي:”كان بابا طبيعيا ولم يكن هنا ما ينذر بالمرض، وحالته النفسية طبيعية، وكان يمارس حياته بشكل طبيعي ويدخل حجرته ليكتب مقاله بالأهرام، ولم تظهر عليه أعراض للمرض سوى قبل دخوله المستشفى بيوم واحد، عندما ارتفعت درجة حرارته فجأة وامتنع عن الطعام، فاتصلنا بالدكتور أحمد عبد العزيز إسماعيل الذي أمر بنقله إلى المستشفى، وهناك اكتشفوا أنها نفس الحالة التي حدثت له منذ ثلاثة أعوام عندما نقلناه إلى مستشفى المقاولون العرب، فقد أصيب بالتهاب رئوي حاد، فجأة أيضًا ولم يكن له سابق إنذار”.

إقرأ أيضا
حفلات العلمين

توفيق الحكيم

أما الطبيب شريف مختار قال أن الحالة كانت حرجة فهو مصاب بهبوط في القلب وقصور في الدورة الدموية وفشل كلوي نسبي، هذا غير أنه كان في حالة غيبوبة كاملة.

أما الدكتور أحمد عبد العزيز طبيب الحكيم الخاص منذ ثلاثين عاما فاقل، أن الحالة بدأت بنزلة شعبية حادة أقرب إلى الالتهاب الرئوي ثم شفى منها تماما بعد عشرة أيام، وتناول جرعات كبيرة من المضادات الحيوية التي أدت إلى عزوفه عن الطعام والشراب، مما أدى إلى قصور في الدورة الدموية، تماما مثل الحالة التي حدثت له في عام 1984 والتي أدت إلى نقله إلى مستشفى المقاولون العرب بالجبل الأخضر والتي ظل بها تسعة أشهر، من إبريل عام 1984 إلى يناير عام 1985″.

خرج توفيق الحكيم من القصر العيني، لكنه لم يعد قادرا بعدها على كتابة مقاله الأسبوعي بجريدة الأهرام، وكان أخر مقال نشره في الأهرام عام 1987 بعنوان “الفكر السياسي”.

الحكيم

المصير المحتوم

ولم يمر سوى شهرين حتى توفى الحكيم عندما أعلن خبر وفاته في 27 يوليو عام 1987.

وتروي ابنته “زينب” اللحظات الأخيرة في حياته، تقول:”عدت إلى منزلي بجاردن سيتي مساء الأحد، اتصلت بمستشفى المقاولون العرب فأخبرني الأطباء إنه يمكنني أن أعود للمستشفى فورا والمبيت مع والدي، فشعرت أن هذه هي الليلة الأخيرة في حياته، وبالفعل ظللت بجواره أنا والأطباء حتى فارق الحياة”.

توفيق الحكيم

وكان أخر ما طلبه توفيق الحكيم، أن ينتقل من العناية المركزة إلى جناحه بالمستشفى ليموت بجوار صورته ولوحة يزينها لفظ الجلالة معلقتين على جدران جناحه، وكان عندما يفيق من الغيبوبة يسأل عن أحوال أحفاده وابنته، ثم يطلب ورقة وقلم يضع عليها بعض الخطوط ليثبت لكل من حوله أنه ما زال قادرا على الكتابة، كما أوصى ابنته أن لا تتصرف في أشيائه الخاصة.

وشيعت الجنازة العسكرية للحكيم في يوم الثلاثاء من مسجد عمر مكرم إلى مدينة الإسكندرية مسقط رأسه، تنفيذا لوصيته، كما أبلغ حسني مبارك في مقر إقامته حيث كان وقتها في أديس أبابا، وأصدر أوامره بأن تكون الجنازة عسكرية.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
2
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان