تاريخ التعصب الكروي في مصر (1-3) التفريق بالمتعة والاتحاد بالفُرْقَة
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
من الصعب بما كان حصر تاريخ التعصب الكروي في مصر داخل إطار منافسات النادي الأهلي مع نادي الزمالك، فالمسألة تاريخيًا لها جذور وتطورات أعمق من مسألة المتعة الكروية.
نتطرق في موقع الميزان إلى تاريخ التعصب الكروي في مصر خلال 3 تحقيقات تسرد الماضي منذ عام 1882 وتنتهي في الوقت الحاضر.
الولس كسر أحمد عرابي .. هيا بنا نلعب
ارتبطت معرفة المصريين بكرة القدم مع دانات مدافع الإنجليز الذين بدأوا ممارسة اللعبة في أطلال شوارع الإسكندرية التي قصفوها في يوليو 1882 م.
كان هناك مثل مشهور في مصر اسمه «الولس كسر أحمد عرابي» بمعنى «الخيانة كسرت أحمد عرابي»، لذا فإن نية الانتقام من الاحتلال البريطاني عبر المقاومة نشأت بعد وقوع مصر في الاحتلال البريطاني مباشرةً عبر جمعية المنتقم التي تزعمها محمد سعيد الحكيم، لكن تم إجهاضها في مهدها.
في تلك الأثناء كان عسكر الإنجليز يلعبون الكرة ولفت نظامها أنظار المصريين، فكان الشباب يلعبونها بشكل عشوائي وبعيد عن أهلهم وذلك لأنها ثقافة مستوردة من الاحتلال، إلى أن دخلت الحكومة المصرية على الخط فقرر محمد زكي باشا وزير المعارف (التعليم) أن تكون الكرة جزءًا من مناهج التعليم.
مع العام 1895 حدثت أول بذور تاريخ التعصب الكروي في مصر عندما التقى فريق مصري صار اسمه التيم المصري مع فريق إنجليزي اسمه الأورانس في مباراة جمعتهم في ملعب قرة ميدان بقلعة الجبل وانتصرت مصر في المباراة بهدفين نظيفين أحرزهما محمد ناشد وأحمد رفعت.
كانت هذه المباراة عاملاً في أساسيًا في معرفة التعصب الكروي الإيجابي داخل المصريين، حيث كان التعصب للوطن كون أن الكرة رمز إنجليزي، وهزيمتهم عسكريًا في الفيافي والمعسكري يمكن أن تحدث كما حدثت رياضيًا في الملعب، لكن ذلك النصر المعنوي ساهم في نسيان المصريين أن بلادهم محتلة وهو ما أدركه الاحتلال البريطاني فلجأ إلى فكرة تشكيل الأندية الكروية المصرية.
شتتهم بالمتعة واجمعهم بالفُرْقَة
في الفترة من عام 1882 حتى الربع الأول من القرن العشرين بدأت تفرقة المصريين بالكرة والتي كانت أفيونًا أقوى من الدين أو الطائفية أو الوطنية، فالإنجليز لن يستثيروا شعبًا متدينًا بطبعه، ولعبة الطائفية لن تنطلي مرة أخرى عليهم بعد مذبحة الجاليات في الإسكندرية، والوطنية كل أصواتها مكتومة إلى حين.
نشطت حركة تأسيس الأندية في الفترة الفترة من 1882 حتى 1911 فتأسس نادي الجزيرة الرياضي عام 1882 فكان أول الأندية بعد سقوط مصر في الاحتلال، وبعده نادي سبورتنج عام 1889 ثم نادي السكة الحديد عام 1903 وبعد عامين جاء نادي الأوليمبي، وفي 1907 تأسس النادي الأهلي، وفي عام 1911 جاء نادي الزمالك وكان اسمه الأول قصر النيل.
كان تأسيس هذه الأندية بالغ الدهاء من حيث الشكل، فجمعيها أندية تمثل مصر وتلعب باسمها، لكن كلها عدا النادي الأوليمبي بها بصمة إنجليزية أو ماسونية أو تبعية لأي حكومة تعمل لصالح الإنجليز، وبعض الأندية على صلة بالإنجليز؛ (أما البصمة اليهودية فلم تكن عيبًا في ذلك الجيل لأن هناك فارق بين اليهودية والصهيونية).
فالأهلي انعقد اجتماعه الأول في منزل ميشيل إنس الملحق العسكري الإنجليزي بوزارة المالية الذي استنزف موارد مصر وكان رئيسًا شرفيًا للنادي، وضم في عضويته إدريس راغب أحد أهم رموز الماسونية في مصر، أما نادي سبورتنج فتم تدشينه برعاية الخديوي توفيق الذي سلم البلاد للإنجليز، بينما نادي السكة الحديد فضم في تشكيله الأول مهندسين إنجليز يعملون في عنابر السكة الحديد والذين أذلوا العمالة المصرية.
وجاء نادي الزمالك فأسسه جورج مرزباخ، وعلى عكس ما يظنه البعض من أنه يهودي، لكن هذا غير صحيح فهو كان من الروم الكاثوليك وُدفِن في المقبرة اللاتينية سانتا تيرا بمصر القديمة، فضلاً عن أنه أحد أشهر رموز المحاماة الذين كانوا يدافعون عن المصالح المصرية ضد الإنجليز، بل وأسس نادي الزمالك ليكون جامعًا للمصريين أمام نادي الجزيرة الذي كان انجليزيًا بامتياز، وهو نفسه الذي كان محاميًا لأشهر الرموز الماسونية بمصر وهو البارون إمبان، وصار رئيسًا لمحامي الأجانب في مصر أمام المحاكم المختلطة التي ظلمت الإنجليز؛ وهذا الهجين والاختلاف الديني والفكري والسياسي أضفى بظلاله على شكل التعصب الكروي فيما بعد.
ليس ثمة دليل على ذلك من أن الأندية تنافسوا على برتيتة كسب رضا الإنجليز حتى كسب نادي الجزيرة السباق وساهم في حفل زفاف الملكة إليزابيث الثانية وقت أن كانت ولية عهد التاج البريطاني، حيث أهدى النادي لها ولزوجها دوق أدنبره يختًا اسمه الزجاجة الزرقاء والذي اشترك به الدوق في سباق بحري نال فيه المركز السابع، وفق ما نشرته جريدة المقطم في 3 نوفمبر عام 1948 م.
شيء آخر تعمدته السلطات الحاكمة في ذلك الحين، وهو أن اللعبة تكون جماهيرية لكن الالتحاق بالنادي يكون نخبويًا وذلك بهدف بث روح التمزق داخل الوجدان المصري نفسه، لذا فإن كل أعضاء مجالس إدارة تلك الأندية والمتحكمين فيها إما بشاوات أو أمراء أو نبلاء لهم مصالح مع الإنجليز أو القصر.
كانت حركة الأندية تلك عاملاً رئيسيًا في إجهاض أي حراك وطني قد ينشأ ضد الإنجليز، فمثلاً حادثة الكونيسة وشقيقتها دنشواي لم تثر فيهما ثائرة المصريين، والحزب الشعبي (الحزب الوطني) مات مع وفاة زعيمه بعد تأسيسه مباشرةً، وحتى الحرب العالمية الأولى التي قتلت المصريين لم تحرك في الشعب ساكنًا.
التمصير خسرنا كتير
جاء التطور الثاني في تاريخ التعصب الكروي في مصر عام 1917 م عبر فكرة التمصير والتي كانت بناءة وبراقة لكنها لاحقًا تسببت في مشاحنات كروية لم تنتهي حتى الآن، كانت إدارة الكرة في مصر تخضع فعليًا تحت السيطرة الإنجليزية، وكرة القدم كـ رياضة كانت ترمز إلى المقاومة كون أنها رمز للاحتلال البريطاني الذي يسيطر على كل شيء.
قبل أن يثور المصريون بالهتاف ضد الإنجليز في ثورة 1919 نجح نادي المختلط (الزمالك) في أن يجمع المصريين حول فكرة واحدة وهي انتشال المختلط من السيطرة الإنجليزية عليه، ولأول مرة في تاريخ الرياضة المصرية تتجمع السفارات الأجنبية مع وزارة الداخلية التي تخضع للسيطرة الإنجليزية على منع تمصير المختلط وهو مالم يحدث ونجح الزمالك في أن يكون نادي مصري خالص عام 1917 م، دون أي وجود أجنبي فيه سواءًا على مستوى الدعم أو حتى أعضاء مجلس الإدارة.
بالتوازي مع ذلك كانت بطولة كأس السلطان حسين كامل التي اقترحها مدير تحرير تحرير جريدة إيجبيشيان ميل الإنجليزية قاربت على البدء وتضم نخبة الفرق الإنجليزية فقرر النادي الأهلي والنادي المختلط أن يلتقيا في مباراة تجمعهما باعتبار أنهما ناديان مصريان ويريدان إثبات شيءٍ ما وهو أن الأندية المصرية قادرة على جعل اسم مصر أقوى.
انعقدت أولى لقاءات الأهلي والمختلط في 9 فبراير 1917 وانتهت بانتصار الأهلي، وتكررت المباراة في العودة بعد شهر وانتهت بفوز الزمالك، أما المصريون فانتظروا مشاركة الاثنين في بطولة كأس السلطان حسين كامل وكلهما آمال في أن يقضيا على العنجهية الإنجليزية.
بدأت بطولة كأس السلطان حسين سنة 1917 وانتهت عام 1938 م وتنافست فيها 4 أندية إنجليزية وطوال السنوات الأربع الأولى (1917 ـ1920) كانت الصدارة إنجليزية، وتوحد المصريين في الخسارة فنشأ تعصب كروي تجاه الإنجليز كفرق رياضية وليس كرمز محتل.
ذلك التعصب تجاه الإنجليز سببه الأهلي وأحرج به الزمالك، فالأهلي رفض أن يشارك في النسخة الأولى من البطولة بحجة أنها تضم الاحتلال، ثم شارك في البطولة الثانية التي تضم نفس رموز الاحتلال، أما الزمالك فأراد من نجاحه بالتمصير أن يتسيد الكرة المصرية، فنشأ التنافس بين القطبين في بطولة السلطان حسين كامل ولم يحققا فيها أي فوز بالكأس من 1918 وحتى 1920 م.
اللاشيء في الفوز بالكأس السلطانية أدت إلى بذرة تعصب جديدة نشأت بين الأهلي والزمالك وهي بذرة التفاخر الجماهيري بالوجاهة الرئاسية للناديين، فالأهلي كان رئيسه في ذلك الحين رئيس الحكومة المصرية، أما الزمالك فرئيسه ليس له صلة بالحكومة فلا هو رئيس لها ولا وزير بها.
وفي تلك المرحلة تطور التعصب بين الأهلي والزمالك بعد الوجاهة الرئاسية عبر رمزية اللعب، فرمز الأهلي الكروي حسين حجازي انضم له سنة 1917 م ثم تركه وذهب إلى الزمالك سنة 1919 م وهو ما أحدث تنافسًا شرسًا بين جماهير الناديين، حتى جاءت ثورة 1919 لتجري تعديلات في الحياة المصرية وكانت الرياضية جزءًا أساسيًا فيها.
28 سنة من بناء الباكبورت الراقي
نجحت ثورة 1919 أن توحد الشعب على هدف واحد وهو تقرير مصير مصر، وبالداخل المصري كانت مصر تتجه إلى تمصير الرياضة والأندية جمعاء وتمثل فترة العشرينيات أقوى مراحل الكرة المصرية وطنيًا.
شاركت مصر في أولمبياد أنتويرب عام 1920م كـ منتخب يضم لاعبي الأهلي والمختلط والسكة والاتحاد والمصري، وقاوموا جميعًا تدخلات أنجيلو بولاناكي رئيس الاتحاد المصري، ورغم أن المنتخب المصري لم يفز بكأس أو حتى المركز الثالث لكنه كانت صرخة مدوية بأن المصريين قادرون على اللعب، لكن التنافس الخفي كان ظاهرًا حيث أن الأهلي سجل أهدافًا.
بعد أولمبياد أنتويرب بعام اجتمع رموز الأندية المصرية ليقرروا تشكيل اتحاد مصري للكرة وهو كان عام 1921 وتولى جعفر والي رئاسة الاتحاد وبدأ مسار كرة القدم يتغير من ذلك الحين كون أن الاتحاد المصري لكرة القدم هو أول إنجاز يحققه المصريون على الإنجليز.
طيلة 28 سنة (1920 ـ 1948) شهدت مصر فترة من أشرس أنواع الاستقطاب الحاد على كافة الأصعدة، فكان هناك صراع بين القصر الملكي والحكومة، وصراع بين الأحزاب وبعضها، ثم تنافس حزبي سياسي بين الشيوعية والدين، يضاف إليه جماعات سياسية أخرى.
ذلك الاستقطاب لم يكن بعيدًا عن الرياضة المصرية عمومًا والأهلي والزمالك على وجه التحديد، وخصوصًا أن رؤساء الناديين خلال تلك الفترة كانوا في الأساس عملاء إما للسرايا أو للإنجليز، فباستثناء جعفر والي رئيس الأهلي فإن أحمد حسنين باشا رئيس النادي الذي تلاه عام 1944 هو نفسه رئيس الديوان الملكي أيام فاروق وكان منبوذًا من النخبة المعارضة للملك فاروق، وجاء بعده أحمد عبود باشا أحد أقطاب الرأسمالية العميلة للإنجليز في مصر والذي كان مكروهًا للغاية من الجميع.
أما نادي الزمالك في ذلك الحين، كان رئيسه أحد أكثر رموز الأمن التي لقيت كراهيةً من المصريين بمختلف أطيافهم وهو محمد حيدر باشا رئيس مصلحة السجون ووزير الحربية لاحقًا.
في ذلك المناخ كان هناك 3 بطولات رئيسية رياضية تجمع الشعب المصري هي كأس السلطان حسين ودوري منطقة القاهرة، وكأس مصر، والبطولات الثلاثة تنافس فيها الأهلي والزمالك بشراسة، فحقق الأهلي الفوز بكأس مصر 14 مرة بينما الزمالك فاز به 7 مرات، أما كأس السلطان حسين ففاز به الأهلي 7 مرات بينما فاز الزمالك به مرتين، أما دوري منطقة القاهرة فحقق الأهلي فيه 13 بطولة بينما الزمالك فاز به 10 مرات.
ظل التنافس والتعصب بين جمهور الفريقيين كبيرًا لكنه لم يصل إلى درجة السوء إلا بعد دخول طرف آخر بمعادلة تاريخ التعصب الكروي في مصر وكان الطرف هو إسرائيل والذي تزامن ظهورها مع بطولة الدوري الممتاز، والعجيب أن الدخول غير المباشر لإسرائيل كان عام 1943 م وترك بصمة ظلت موجودة إلى 14 ديسمبر 1951 م وقمنا بشرحها تفصيلاً هــــنـــا، وما هي إلا 7 أشهر وجاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتطيح بالنظام الملكي ويتغير شكل تاريخ التعصب الكروي في مصر بشكل عامٍ، وذلك له تقرير آخر قريبًا.
(يُتْبَع)
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال