كيف ستكون الحياة دون ابن تيمية؟ كيف ستكون الحياة دون إديسون؟

بالخارج كانت السرادق قد نُصبت فأغلقت مدخل الشارع، وكان النجار وقتها بصالون الحلاقة ينتظر دوره.

وكان على كرسي الحلاقة الزبون وهو أحد أقارب العروس ولكنه يبدو إنه غير سعيد، وقد لاحظ الحلاق ضيق الزبون فسأله: “مالك؟ فرح ابن عمك ومش مبسوط؟”..

وقال الزبون بتأفف: “بلا ابن عمي بلا ابن خالتي يكفي المعاصي التي سوف ترتكب اليوم، وأولها ما يجري أمام دكانك”

ونظر الحلاق عبر مرأته فوجد حسين الكهربائي وصبيه يسرقان وصلة من الكابل العمومي، تجاهلهما وواصل عمله غير أن الزبون قال بحنق:

“أهو اللي اخترع الكهربا دا كل معصية بتحصل هتكون في ميزان سيئاته”

وضحك الحلاق رغمًا، وضحك النجار أيضًا وهو يتساءل: “بس هو مش مسلم أساسًا!”

وأعقب الزبون: “الحمد لله… يعني مخلد في نار جهنم”..

وتعجب النجار: “يكفي ما تركه لنا الرجل… ولولاه لكنا نعيش في ظلمات ليوم الدين”..

وقال الزبون باستهانة: “وإيه يعني؟ كما عاش من قبلنا كنا سنعيش، على الأقل كانت ذنوبنا ستكون أقل بكثير… أم أنه يعجبك الفسق الذي يخرج علينا من شاشات التليفزيون وما يحدث في الأفراح من مجون وفجور”..

وتأكد النجار أن الزبون من العقلية إياها، التي تعيش في الماضي وتكره الحاضر والتقدم والتكنولوجيا، وأن الجدال معه لن يأتي بنتيجة مختلفة عمن سبقوه.

وقال الحلاق: “لكنك لا تنظر سوي للنصف الفارغ من الكوب، فـ للعلم منافع كثيرة”..

ورد الزبون: “لا أنكر فضل العلم طبعًا ولكن العلم المفيد للناس هو العلم الذي يعرفهم دينهم ولا يشغلهم عن ديناهم.. ولك في ابن كثير وابن تيمية مثال، هؤلاء علماء بحق، سوف يجزيهم الله عن علمهم خيرًا، وبالتأكيد سيكون في ميزان حسناتهم يوم القيامة، وسيكون شفيع لهم أيضًا، علوم الدين خيرا من علوم الدنيا… والا إيه يا أسطى أحمد؟”

وكان على الأسطي أحمد أن يرد: “إيه طبعًا! أنت تقدم علوم الدين وهي قاصرة على معتنق دينك بمفهومه وتتجاهل العلوم التي تشمل الجميع..

من ينتفع بعلوم ابن تيمية وابن كثير غير من يتبع ملتك؟! أما علوم الدنيا فيها منفعة للجميع، المسلم والمسيحي واليهودي ومن لا دين له..

هل يستطيع أحد أن يستغني عن الكهرباء؟ بالتأكيد سوف تتأثر حياته وتتبدل إلى الأسوأ! هل يستطيع أحد أن يستغني عن علوم ابن كثير وابن تيمية؟ بالتأكيد.. ولن تتأثر حياته إلا على نحو أفضل”..

بدا الزبون في غاية الضيق، وقد نال منه الغضب حتى أحمر وجهه: “كيف تتطاول على علماء الإسلام وفي ذلك أثم عظيم؟ إن ما تذكرهم لهم خير من انجبت الأرض!”

وكان النجار يدرك جيدًا مدي تعصب أهل الجهل لرموزهم، وحاول الحلاق أن يحتوي الموقف: “صل على النبي كدا.. طب هو ليه ما زعلش لما  تمنيت إن مكتشف الكهرباء يكون مصيره نار جهنم “.

وقال النجار بهدوء: “لأن العلماء ليس أهل تقديس.. يقدمون اختراعاتهم للبشرية دون انتظار للشكر حتى”

وقال الزبون بتهكم: “كل مُصير لما خلق له.. هؤلاء سخرهم الله لخدمتنا”

وعلق الحلاق وهو يهز رأسه: “هذا حديث القملة للقملة”.

ونال التشبيه من النجار فابتسم وهز رأسه بحسرة، وتخيل الحياة للحظة بلا تكنولوجيا أو علم، بلا معرفة أو فنون.. حين تكون الحياة بلا حياة..

وكان الحلاق قد انتهي من رأس الرجل فسأله: “هل أطلق اللحية كما هي أم أشذبها؟”

ونظر الزبون إلى المرآة فأحس بأن يُشبه القرد فعلاً، وكانت لحيته كثيفة عند السوالف خفيفة عند الذقن، فسأل الزبون: “ما رأيك أنت؟”..

وتمني الأسطي أحمد أن يقول له: اسأل علماءك. غير أن اعرض عن مجادلة يعرف منها أنه سيخرج منها – بالضرورة- خاسرا. هو يعرف جيدا كيف يفكر الزبون.. وفكر للحظة لو أن العلماء يفكرون مثله..

إقرأ أيضا

كتفك في كتف اخوك .. كيف حافظت مصر على دورها القومي في احتضان اللاجئين؟

أديسون مثلا.. تخيل لو أنه بذات العقلية.. يتيم، تموت أمه بعد صراع مع المرض.. تموت لغياب الضوء ليلا.. الأم ستنفجر الزائدة بداخلها. والطبيب لن يستطيع أن يجري العملية إلا تحت ضوء الشمس كي يتمكن من عمله، وتموت الأم، بعقلية الزبون سيبكي ويدعو لها بالرحمة وربما كان أكثر سخاءً وحبا فيضع لها كولدير على ناصية الشارع.

تلك العقلية لا بد وأنها تختلف عن عقلية العبقري.. لماذا ماتت الأم؟ لعدم وجود إضاءة ليلة كافية..

حسناً.. سنعمل على ذلك. ويرسل برقية للجامعة كي تساعده وتمده بالتموين اللازم مفاداها (البشرية في حاجة إضاءة بشرية).. هكذا وبمنتهي الوضوح: البشرية جميعا تحتاج هذا الاكتشاف والتعامل معه.

وجاء رد الجامعة (نور الشمس يكفي)

أجل! هذا هو الرد التلقائي، إنها عقلية الزبون العابرة للقارات والأزمنة..

ومع ذلك، حقق إديسون ما أراد.. كما حقق غيره.. ممن تركوا بصمات تشكل حياتنا المعاصرة..

ونظر إلى الزبونة ولحيته، وقال الزبون للحلاق: “شيلها خالص”.

وأشار الزبون للحلاق بالموافقة، فسحب الحلاق موسه وبدأ في حلاقة الجانب الأيمن حتى انتهي، وأحس بأن زبونه قد أصبح نصف سلفي نصف عصري، وأنه بعد لحظات سيكون كغيره من البشر غير أن الكهرباء انقطعت، فصاح الزبون: “يا دي المصيبة… أعمل إيه دلوقت؟”…

فرد الحلاق بسخرية: “اسأل ابن تيمية”..