رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
3٬812   مشاهدة  

سيرة ذاتية للدخان

سيجارة


كانت أمي تعشق الرسم.. وكان جدي دليلًا للصحراء.. أما أبي فقد كان يشرب  “سجائر سوبر”.
ليست المأساة هنا أن حلم أمي في الرسم لم يكتمل.. وخرجت من المدرسة وهي في “رابعة ابتدائي”.. ولا يعنيني كون جدي كان خبيرا صحراويا لمن يسلك الصحراء، بحثا عن أي “ابن مرة”.. الطامة الكبرى بالنسبة لي اكتشاف أن أبي لم يكن يجيد التدخين أصلا.. فهو يسحب النفس من السيجارة وينفخه في وجهك مباشرة دون أن “يحبس” الدخان، مثلما كنت وكنا كلنا نفعل في بداية معرفتنا بالتدخين.
حكاية أبي مع التدخين عجيبة.. بصراحة كل الحكايات المتعلقة بأبي عجائبية.. لكن أخر ما يمكن قوله إنه عندما تعرض لأزمة قلبية منذ 10 سنوات، نصحه الطبيب بعد عمل الأشعة والفحوصات بأن “لازم تبطل سجاير يا مقدس”.

هذه مقدمة لا بد أن أقول إنها مهمة.. ولا بد أيضا أن تصدقني عندما تعرف أن سيرة أبي مع الدخان، كانت مدخلا لعلاقتي الوثيقة مع “السيجارة السوبر”.. طوال رحلتي وأنا طفل لشراء علبة السجاير الذهبية المغرية لي منذ نعومة رئتي.. أو ربما تكون دليل ساطع لاذع أني “ابن أبويا”.. أو أن العرق دساس.. أو اللي خلف مامتش.

كنا على أعتاب الألفية الثالثة.. يوم توطدت علاقتي أكثر مع السيجارة السوبر وأنا  في العشرين خريفا.. ركزت معها مع الهوجة الموسمية المدعوة “السجاير هاتغلى”.. وقتها كانت العلبة الكليوباترا ثمنها جنيها ونصف.. وتباع ب 160 قرشا.. بزيادة “بريزة” كضريبة رخامة.. وكانت “البريزة” أيامها تجدها مضافة على أي سلعة.. جرنال.. سجائر.. أجرة ميكروباص.. معونة شتاء.. لذلك كان يكره المصريون في ذلك الزمان “البريزة” كما يكرهون سائقي تباع ميكروباص الجمعية.. الآن اختفت “البريزة” وأصبحت البلد كلها “تباعين”.
يومها وكالعادة أخفى “بتوع السجاير” كل أنواع الدخان انتظارا للزيادة.. يدكنونها أو يبيعونها بالسعر الجديد، حتى من قبل نزول السعر الجديد بأسبوع كامل..لأنه من المفترض أن زيادة أسعار السجائر كانت تنشر في الجريدة الرسمية للدولة، كما سعر تحرير الصرف أو البنزين والجاز.. وقطعا لا تكن هذه الزيادة في صالح أحد أكثر من أصحاب أكشاك السجائر.. حتى أكثر من “ايسترن كومباني” شخصيا.
كل ما استطيع قوله والتأكيد عليه في هذه النقطة هو أن كل المدخنين في مصر يكرهون أسبوع زيادة السجائر.. أكثر من كرههم للبريزة وتباعي ميكروباص الجمعية.. لكنهم لا يصدرون نفس ردة الفعل قطعا.. فكل مدخن حسب أخلاقه.. فهناك الناصح الذي يعمل حساب هذا اليوم ويكون قام بتخزين “أروستين” ثلاثة.. حتى تهدأ العاصفة ويمر أسبوع الجشع على خير.. وهناك من يضطر لشراء سيجارته التي تعود عليها بأي سعر بمبدأ “هي جت على السجاير يعني”.. وقليلون هم من يقوموا بشراء أي نوع سجائر وخلاص.. لغاية ما ينزل بالسعر الجديد.. لكن العصبيين في الغالب يقررون تبطيل التدخين فور اختفاء السجائر أو صعوبة الحصول عليها.. ويعودوا في قرارهم بمجرد أن تعطيه سيجارة.

بالنسبة لي، هذه المرة اتخذت القرار السليم.. “أنا هادخن سوبر”.. بعد مراجعة ومراقبة بورصة السجائر واكتشفت بعد تحليل عميق إن السيجارة السوبر _أيامها_ كانت الوحيدة التي لا تختفي مع زيادة أسعار السجائر كل مرة.. هي وسجائر ماركة “لايت” لا يفضلها سوى أصحاب المعاشات من الموظفين.. دائما موجودتان على رفوف الأكشاك.. ولا يزيد سعرهما على 150 قرشا مع زيادة البريزة.. التي تحولت إلى ربع جنيه.. ثم كبرت حتى زيادة قدرها جنيه بحاله على الشعر الرسمي.. وقتما كانت العلبة تباع ب سبعة جنيهات ونصف إبان ثورة 25 يناير المجيدة.. وقبل أن تتحول الآن إلى أسطورة بين السجائر.. نسمع عنها ولا نراها ووصل ثمنها إلى 25 جنيها مقفولة إن وجدت.

يسمونها سيجارة العمر الطويل.. أو سيجارة المشاوير.. وفي موضع آخر، في وسط البلد مثلا، هي سيجارة اليساريين والراديكاليين والفنانين.. فلا سيجارة غير “السوبر” يمكنها أن تشبع شبقك للتدخين وأنت تتجرع زجاجة براندي.. أو تلقي  قصيدة شعر أما الأصدقاء على مقهى عتيق في “الفلكي”.

يجب أن تفركها جيدا.. لا تخف.. فهي قوية لدرجة تحمل دغدغة أصابعك لها بقوة.. أو بنعومة.. أو بعصبية وقلق.. وتحبك لو فركتها بعشق متوحدا مع الفعل والتبغ.. لتخرج هي ما في جوفها من تبغ زائد لا تحتاجه أنت.. لتعرف كم هي سيجارة كريمة.. فبخلاف أنها الأطول بين قريناتها من السجائر، إلا أنك تجدها معبأة بضمير.. وليست نصفها معبأ بالهواء والنصف الآخر خشب كما الكليوباترا العادية والبوكس.
لكني لا يمكن أن أجامل أو أحابي لا مؤاخذة السيجارة السوبر عندما تكون مكبوسة فعلا.. لا بد أن أعترف أنها سمعة سيئة التصقت بالسوبر.. فلو كانت “منفسة” كان سيكون ذلك أرحم بسد الخرم بإصبعك.. فعيب خطير أن تكون السيجارة مكبوسة.. لم يتوقف الأمر عند تلك الكبسة.. فقد تدهورت حالة السيجارة السوبر وتراجع مستوى جودتها.. فمرة تجد سيجارتها فارغة وكل التبغ واقع في قعر العلبة.. أو مقطومة من عند الفلتر.. عندئذ أيقنت أنه “حتى السجاير انضربت في البلد دي”.. وقررت هجرها قبل أن أكرهها، واحتراما لعشرة طويلة بيننا لم تقصر معي في شيء.

إقرأ أيضا
مع هاني مهنى

في أواخر عام 2010 كان الشعب المصري يبحث عن بديل للنظام الذي احتكر السلطة وباع الشعب وثرواته.. وأنا كنت أبحث عن بديل للسيجارة السوبر.. وهو أمر ليس بالساهل على شخص تعود على سيجارة بعينها بعدد سنوات تقدر بنصف فترة حكم مبارك.. كنت أفكر في ذلك بينما يعبر بي ميكروباص “فولكس” نفق الهرم مع آخرين.. ورأيت فيما يرى “الخرمان” للعدل ولنفس سيجارة سوبر نظيفة من تلك التي كان يشربها “يوسف شاهين”.. رأيت رابطة “أخوية السوبر” يقفون أمام مقر الشركة الشرقية للدخان والسجائر في مظاهرة حاشدة.. يحملون لافتات تطالب بتقدير السيجارة السوبر وعراقتها.. معترضين بأصوات تصدح في قيظ أغسطس على المهانة التي وصلت إليها سيجارتهم المفضلة.. يطالبون  باستبدال الخشب والكرتون الموجود في السيجارة واستبداله بتبغ يحترم رئتيهم وأمزجتهم.. بمعاقبة المسئولين عن تخريب السيجارة السوبر وهدم تاريخها العريق.. وبيع كل ذلك في صالح سجائر أخرى أكثر سوءا.. لكنها في علب جذابة تغري الزبون.. أفقت من شرودي في منزل الكوبري لميدان الجيزة المزدحم حتى النفق أصلا.. أفقت على صوت خبط “تباع” ميكروباص جمعية يعبر بجوارنا على سقف الفولكس قائلا للسائق “معاك ولعة يا زميلي”.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
7
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
1
هاهاها
3
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (4)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان