139 مشاهدة
تأملات في سر العلاقة الكامنة بين الإنسان والماء
مهما بلغت من العمر فبمجرد هطول الأمطار تغمرك السعادة، وتظهر علامات البهجة على قسمات وجهك فور أن تلامسك قطرات الماء، وأتذكر فرحتنا العارمة أيام الصبا حين كنا نفتح أيدينا تحت المطر لننال بعضٍ من قطراته فنمسح بها وجنتينا، ولعل بعضنا ما أنفك عن هذا الفعل حتى بعد أن أصبح يافعًا، وإذا صادف هطوله سيرك مترجلًا فقد تشعر وكأنك تطهر روحك وتغسلها من أي طاقة سلبية ألحقت بها الأذى، كما أنك لو سئلتك عن أي نُزهة تطوق لقضائها فقد تحبذ السير على ضفاف نهر النيل ” الكورنيش”، أو قضاء نزهة ساحلية والتمتع بجمال الطبيعة والبحار.. وإذا تأملت في كل ما ذكرت سترى أن الماء عاملًا مشتركًا، ما جعلني أتسائل ما علاقتنا كبشر بالماء ليكون سببًا رئيسًا في لهجتنا!
الماء.. سر الوجود
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” نص قرآني يكشف لنا عن السر الكامن وراء هذه العلاقة، فهي علاقة قديمة الأزل تعود إلى بدأ الخليقة، ففي تفسير الجلالين لهذه الآية “وجعلنا من الماء النازل من السماء والنابع من الأرض كل شيء حي من نبات وحيوان وغيره أي فالماء سبب حياته”، ولولا الماء لما كانت الحياة على وجه الأرض فهو قوام كل المخلوقات، وإذا تأملنا في أصل الإنسان وخلقه فإن الماء عامل أساسي في تكوينه وقد أكدت الأدلة من القرآن على ذاك في مواضع كثيرة منها قوله تعالى “فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ”، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: “أعلم أنه تعالى بيَّن أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل ومنه ما هو خارج من الترائب: وهو ماء المرأة” (١)، وفي مواضع أخرى عن خلق الإنسان وردت بلفظة طين، “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين” والطين يتكون نتيجة اندماج التراب بالماء.
العلاقة البيولوجية بين الإنسان والماء
ومع تطور البحوث البيولوجية المتخصصة في تشريح جسم الإنسان ودراسته، توصل العلماء إلى أن نسبة الماء في جسم الإنسان تصل إلى ٧٠٪ وتقدر بحوالي ٤٠ لترًا، والتي تزيد وتنقص حسب السن والجنس.
كما أثبتت الدراسات أن الماء يعتبر البناء الأساسي للخلايا فالسائل الخلوي في الخلية “السيتوبلازم” يتكون من الماء بنسبة ٨٠٪.
ويمثل الماء للإنسان عنصرًا رئيسًا لإمداده بالحياة فمنذ أن يكون جنينًا في رحم الأم يحيط به السائل الأمينوسي المتكون في البداية من الماء الموجود في جسم المرأة، ويكون بمثابة بطانة للجنين ويحميه من الصدمات، كما أنه يساعد في نموه الطبيعي وتنظيم درجة حرارته فهو يحتوي على العناصر الغذائية والهرمونات والأجسام المضادة التي يحتاجها الجنين، ويساهم شُرب الأم للماء بالقدر الكافي أيضًا في وصول الدم الُمحمل بالغذاء بشكلٍ جيد.
لتبقى على قيد الحياة
وبمجرد الولادة يصبح الماء عنصرًا لا نستطيع الاستغناء عنه منذ مرحلة الرضاعة حيث يُنصح بإرضاع الطفل حديث الولادة رضاعة طبيعية حيث تعمل على تقوية جهاز المناعة وتكوين الرابط النفسي بين الأم والابن، ويُذكر أن الماء يُمثل ٨٧٪ من لبن الأم لذلك تنصح المُرضع بشرب كميات كبيرة من الماء، وببلوغ الطفل ما بين أربعة إلى ستة أشهر يُنصح بإعطاءه كميات قليلة من الماء حتى يصل الفرد إلى مرحلة البلوغ فيتراوح القدر الكافي لجسمه حينها ما بين ١.٥ أو ٢ لتر أو أكثر حسب وزنه، ما يعود عليه بفوائد كثيرة منها:
-تنظيم درجة حرارة الجسم الداخلية.
-حمل الأكسجين والمواد المغذية للخلايا.
– يعتبر هو المذيب الرئيسي للمعادن وبعض العناصر الغذائية في جسم الإنسان.
– يساهم في هضم الكربوهيدرات ويساعد في ابتلاع الطعام حيث أنه المكون الأساسي للعاب.
– يقوم بدور العازل في الدماغ والحبل الشوكي والأعضاء فيساعد في امتصاص الصدمات.
– له دور رئيسي في طرد الفضلات والسموم من الجسم عن طريق البول.
ويتمكن الإنسان من البقاء على قيد الحياة دون شرب الماء مدة تُقدر بأيامٍ لكنها تتفاوت من شخص لآخر وذلك حسب العوامل المحيطة به، لكن من المؤكد أن إهمال شرب القدر الكافي من الماء يمثل خطورة كبيرة على صحة الفرد منها ما يلي:
– نقص الأكسجين في الجسم ما يؤدي إلى هبوط حاد في ضغط الدم.
– حدوث بعض التشنجات وفقدان الوعي إثر اختلال توازن عنصري البوتاسيوم والصوديوم الناقلان للشارات الكهربائية بين الخلايا.
– تكون حصوات بالكُلى وحدوث التهابات بالمسالك البولية وقد يصل أمر إلى الإصابة بالفشل الكلوي.
-تضرر الجهاز التنفسي نتيجة تراكم المخاط ومسببات الحساسية في المجاري التنفسية.
– التأثير على وظائف الدماغ وذلك للدور العام للماء في إنتاج الناقلات العصبية.
– آلام المفاصل حيث يشكل الماء حوالي ٪٨٠ من تكوين الغضاريف.
– ارتفاع درجة حرارة الجسم. نتيجة قلة كمية الماء التي تخرج في صورة عرق لتبريد الجسم.
– زيادة مشكلات البشرة والجلد كظهور التجاعيد.
حتى أن الماء له فضل وافرٌ على الإنسان في توفير قوته فكما أنه مصدر لبقاء الإنسان فهو كذلك للنباتات من خضروات وفاكهة والحيوانات من أبقار وأغنام وطيور والأسماك والتي تعد مصادرًا رئيسية في غذاء الإنسان، فالنبات على سبيل المثال يحتاج للماء في عملية البناء الضوئي المسؤولة عن غذاء النبات، حيث يعمل على تمرير الأشعة فوق البنفسجية في عملية أيضا ويحافظ على توازن النباتات.
تتجدد علاقة الإنسان بالماء يوميًا وذلك بارتباطه بالاستحمام بشكل يومي إلى جانب كونه المصدر الأساسي للمشرب والمأكل، فالاغتسال بالماء كفيل بأن يعيد النشاط والحيوية للفرد فهو له دور في تنشيط الدورة الدموية في جسم الإنسان، كما يساعد على التركيز وتحسين الحالة المزاجية والوظيفة المناعية والوقاية من العديد من الأمراض.
الترغيب بالمحبوب
ولِعِظم شأن الماء وأهميته في خلق الكائنات الحية وإمدادها بالحياة، فقد ورد الماء وكل ما هو من جنسه في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، حيث ذكرت لفظة “الماء” ٦٣ مرة، ولفظة “البحر” ومشتقاتها ٤١ مرة، أما “الأنهار” فقد وردت ١٢٣ مرة منها ٣٥ موضعًا مرتبطًا بالجنات وجزاء المؤمنين الذين اتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه.
ولأن الخالق عالمٌ بسرائر الإنسان وما قد يستثير هواه وتهفو إليه نفسه فقد استخدم الأنهار الجارية ووصفها في آيات كثيرة، لترغيب البشر في الإيمان به وعمل الصالحات في سبيل الفوز بنعيم الجنة قال عزوجل “مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍۢ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍۢ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍۢ لَّذَّةٍۢ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍۢ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ”، ولو لاحظنا فكلها أنهار بدون أخاديد وليست كصورتها المعهودة في الدنيا ففي الجنة “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
(١) تفسير ابن كثير، الجزء الثامن، ص368.
الكاتب
ما هو انطباعك؟
