رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
225   مشاهدة  

البشرية تسحق العظماء وتصنعهم

جاليليو
  • روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...

    كاتب نجم جديد



“بائساً ومنهزماً يجلس وحيداً، ويضع يده على خده باستسلام اليائس، ينظر نحو الفراغ، لم تخرجه حلاقة ذقنه من كآبته المميتة، غارق في مأساته، ولا يجد ما يبوح به للعالم غير فنه، فنه الذي يعبر عنه بصدق”..

تلك اللوحة الشخصية لفان جوخ داهمتني على أحد صفحات التواصل الاجتماعي، كان مكتوبا تحتها “لوحة شخصية فان جوخ.. سعرها 75 مليون دولار”..

العظماء

إنه القدر وألاعيبه.. فـالرجل الذي عاش مهجوراً يعاني الفقر والوحدة والأمراض النفسية، والذي لم يبع لوحة في حياته، فيقرر الانتحار حتي تنتهي تلك المأساة. تُبيع لوحاته بملايين الدولارات.

فـ من المستفيد هنا؟

تلك الواقعة أيقظت وقائع أخرى لا تقل عنها.. ها أنا أسمع صوت جاليليو وهو يدب على الأرض صائحاً: “إنها تدور.. تدور”..

ورغم ذلك تلزمه الكنيسة على الاعتراف بمركزية الأرض وعدم دورانها من الأساس، والأسوأ أن يحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته حتى الممات..

العظماء

وبعد قرون تعترف نفس الكنيسة – بعد محاكمة رمزية- بأن الأرض تدور، وأن نظرية جاليليو هي النظرية المعتمدة بديلاً عما قاله أرسطو!

فـ ما قيمة أن يعيش العالم مقهورا وغير معترف به ليصبح بعد مماته مكرما، معترف بنظرياته؟

هذه الإشكالية سنجدها أيضاً عند نيتشه.. هكذا أراه الآن، واقف أمام ناشره، يشهر أمامه المسدس، ويصرخ يائساً ومهدداً: إما أن اقتلك أو أقتل نفسي.

وذلك لأن الناشر بعد نشره لـ “هكذا تكلم زرادشت” ألقي بها في المخازن، ولم يقدمها للجمهور كما يجب.

ويصاب نيتشه بالجنون، ويظل حبيس المصحات العقلية، يصارع الزهري والهوس الإكتئابي والخرف الوعائي حتي أصيب بالشلل ثم بالسكتة الدماغية التي أودت بحياته.

فـ لك أن تتخيل أن هذه العقلية قدمت للبشرية فلسفة عظيمة كان لها تأثيرها الكبير للإنسانية، وباتت رائعته (هكذا تكلم زرادشت) الأكثر مبيعا وشيوعا وانتشارا حتى اليوم..

سقراط أيضاً يظهر في الذاكرة، يبدو كومضة سريعة وخاطفة.. يقف أمام هيئة المحكمة، ويحاورها في الدين والسياسية والأخلاق. لم يفكر للحظة في الدفاع عن نفسه، عن دفع التهم المنسوبة إليه: الشذوذ، عدم انفاقه على صغاره، نقد الحاكم، موقفه من الآلهة..

تلك القضايا لم تكن تشغله بقدر انشغاله برسالته: كيفية التفكير المنطقي السليم؟.

ولكن، كيف تفهم الحمار بكونه حماراً بالعقل والمنطق؟

لذلك فشرب السم طوعاً ومغادرة هذا العالم الأحمق كان وسيلة النجاة الوحيدة.

هذا الحكيم، الذي غير تفكير البشرية فيما بعد لم يستطع أن يغير تفكير زوجته زانبثي.. وما أدراك ما زانيبث… كان الموت أهون وأرحب.

والسؤال هنا: ما الذي يجعل البشرية تحارب العظماء من الفن والمعرفة ثم تمجدهم بعد موتهم؟..

ربما يساعدنا في الإجابة هنا حول ما يتعرض له العظماء ما قاله دور كايم عن الوعي الجمعي، والذي يتلخص في فكرة القطيع: أنت فرد من هذا القطيع وعليك أن تؤمن بثوابته ومعتقداته، وممارساته اليومية، والخروج عن القطيع يعني القلق.. التوقف، والتدبر، والتأمل، واتخاذ القرار الصحيح.

ولكن، هذا لا يحدث غالباً.. القطيع لا يتوقف عن الركض، وأي محاولة للوقوف أمامه يعني الهلاك بلا شك..

أصلا لا يجوز الشك..

إقرأ أيضا
أوبريت راجعين

القطيع مؤمن بما يفعله.. الإيمان أساس القطيع المتماسك.. ولهذا: لا بأس من طحن المختلف..

 أما المختلف، فـ هو متخلف بالفعل.. لعل هذا ما يحول هذا الطحن المجتمعي إلى طاقة إبداعه.. تلك الطاقة المنفجرة من صميم التجربة الموجعة/ القاسية..

ويبدو أن العظماء هم وقود الحياة، يحترقون من أجل أن تتقدم البشرية، التي تساهم في احراقهم، لتفرز التجربة الإبداعية المتفردة.

تلك التجربة التي جعلت من صدق لوحة فان جوخ عظمة خالدة. ومن نظرية جاليلو دليل على مصداقية العلم أمام الخرافة، ومن إنسان متحطم مثل نيتشه إلى فلسفة الإنسان الجديد، الإنسان القادر على كل شئ إذا أراد، إذا أراد أن يكون عظيماً..

العظماء

أما سقراط، فقد كان المعلم الأكبر بحق.. لقد شرب السم طوعاً، فاندثرت حضارتهم، وباتت معابدهم مزارات للسائح يلتقط الصورة ويمضي.. ومضت هيئة المحكمة دون أن نعرف أحدهم، ولف النسيان ثوبه بالحاكم، وبقي صاحب المعرفة، بصدقه، وفكره، وتأثيره.

أعتقد أن هذه المقالة لم تكن ستكتب إلا بفضل سقراط بشكل مباشر.

بفضل هذا الرجل أحببت الفلسفة فدرستها.. وكانت دراستها مدخل للكتابة، في الحقيقة، بوابة المعرفة والعلوم..

وبمناسبة سقراط.. أريد أن أوكد على رسالتي السابقة له: “عزيزي سقراط روحك لا تزال في خطر.. ماذا أفعل؟”

الكاتب

  • العظماء عمرو عاشور

    روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان