الشيخ المسلوب.. أزهريّ رسم طريق فن التوشيح و أعاد فن الدور الغنائي

كتب علماء الحملة الفرنسية الذين عاشوا في مصر ثلاث سنوات تقريرًا عامًا عن حالة الغناء المصري المتدهور في خاتمة القرن الثامن عشر وأول القرن التاسع عشر، شأنه شأن مناحي الحياة المختلفة في تلك الفترة.

ومع بداية عصر النهضة ازدهرت الحياة العامة في مصر، من بينها الغناء، وكان الشيخ الأزهري “محمد عبد الرحيم المسلوب” هو ذاك الشخص الذي أخذ بيد الألحان من مستنقع البدائية التي توحلت فيه إلى الجودة، في الوقت الذي نمت فيه أيضًا الكلمات الشعرية على يد جماعة من الأزهريين، ولا عجب في ذلك فالغناء قرين الشعر عندنا نحن العرب، فلو سقطا أحدهما سقطا الآخر العكس.

ميلاد الشيخ و نشأته

ولد محمد عبد الرحيم المسلوب في نهاية القرن الثامن عشر بعد انقضاء إمارة” إبراهيم بك” و” مراد بك” بقليل أي في عهد المملوك “البرديسي” بك، الذي نهب أهل القاهرة حتى خرجوا إليه في الطرقات ينددون به في هتفاهم الذي سجله التاريخ” إيش تاخد يا برديسي من تفليسي”.

كان الشيخ “المسلوب” من أبناء الأزهر كجميع المشتغلين بالثقافة في عصرهما؛ فكل شاعر أو كاتب أو منشد أو مقرئ أو مغني كان لابد أن يلم بكل شيء كثير أو قليل من علوم الأزهر قبل أن ينطلق إلى ساحة الحياة .

مكانته الفنية

نال “المسلوب ” مكانة خاصة بين شيوخ الفن والتلحين فهو رائد فن الدور ، و هو أقدم الشيوخ الفنانين عهدًا بالفن ، وبعد أن تعلم في الأزهر، اشتغل منشدًا في الموالد،  ولمّا نضجت موهبته اتجه إلى الغناء والتلحين وبرع في تلحين الموشحات حتى قيل أن أحدًا من الملحنين لم يبلغ مستوى الأندلسيين في تلحين التواشيح إلا الشيخ “المسلوب” فإنه بلغ في ذلك المستوى بل تخطاه  و رسم طريق فن التوشيح لمعاصريه ولمن جاء بعدهم  كما  رسم لهم طريق فن الدور الغنائي .

وأشهر ما بقي لنا من تواشيح الشيخ المسلوب” لما بدا يتثنى”، وهو من صيغة ” الروندو” و يعتبر مثالًا في دقة الصنعة و حلاوتها و سهولتها و  امتاعنا .

وقد جمع صورًا من الموسيقى والغناء العربي مع موافقته لقواعد الموسيقى الأوربية ، وتتمثل في نغماته وإيقاعاته وموهبة الشيخ المسلوب  وبراعة أدائه

فليس من الغريب أن يقولوا أنه بفضل ” المسلوب” تخطى بالغناء المصري من  مستنقع الألحان البدائي التي أوشك أن يغرق فيها خلال عهود التدهور القومي والاجتماعي، أو هو محرر الغناء المصري من الصراخ الغجري والعثماني البدائي .

الشيخ المسلوب و أنغام الدور

وكان الشيخ محمد المسلوب هو الذي ارتاد طريق ” الدور” ، وتلقفه منه عبده الحامولي فغناه ونسج على منواله ، ثم تقدم محمد عثمان إلى هذا الشكل الفني الجديد فزاد فيه كثيرًا حتى استكمله و  استبحر في صناعته وفق مقامات وإيقاعات لم تكن مطروقة في أيامه وإن كانت جارية على ألسنة بعض الرواة في الشام وتركيا فضلا عن مصر، ومن ثم سيطرت ألحان ” الدور”  على أسماع الناس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى بلغ أوجه بين عشرينيات وستينيات القرن العشرين.

وجدير بالذكر أن ” الدور”  في الغناء ليست من اختراع “المسلوب ” ولا معاصريه ، فإننا نجدها في كتاب الأغاني للأصفهاني الذي تم تأليفه قبل ألف سنة ، ونجدها في الكتب التي جاءت بعد كتاب الأغاني على امتداد الدولة العباسية، خلال مئات السنين، ومن أشهرها كتاب عنوانه : (الأدوار في معرفة النغم والأدوار ) لصفى الدين عبد المؤمن البغدادي الأرموي الذي كان مطرب الخليفة المستعصم ، آخر خلفاء بني العباس .

إقرأ أيضا

المخرج محمد عبد العزيز في حوار الميزان: فخور برصيدي السينمائي مع “الزعيم” و “كريم” شخصية استثنائية

ومن أشهر الأدوار الذي غناها ” الشيخ المسلوب” دور ” العفو يا سيد الملاح” لبدر لاح في سماه”، و”في رياض الجلنار”، و”أنعَمَ وزار زاهي الجبين”،و”أسيل خدك يتعاجب بخاله و يسحر العين”،” ياحلو يا مسليني”.

ظل محمد عبد الرحيم المسلوب يلحن ويغني حتى تجاوز الثمانين من عمره، وترك ثروة ضخمة من الأغاني التي لم تدون، وقد رحل عن عالمنا ۱۹۲۸ ، ويقال إنه عَمر أكثر من مائة وعشرين سنة وفي رواية أخرى، أكثر من مائة وثلاثين سنة !، وهكذا كان الشيخ المسلوب أستاذًا و رائدًا للغناء المصري.

المصدر

كمال النجمي، تراث الغناء العربي، دار الشروق، القاهرة،ط/ 1، 1993م.